نماذج من «الكيمياء» بين الزعماء

بث راديو «بي بي سي 4» قبل أيام تمثيلية أعادت تصوير أجواء المفاوضات التي جرت في العاصمة الإيسلندية ريكيافيك يومي 11 و12 من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1986، أي قبل ثمانية وعشرين عاما بالضبط، بين رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف حول خفض ترسانة الأسلحة النووية والصواريخ البالستية لكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وكان من أمتع جوانب هذا العمل أنه رسم تضاريس العلاقة السياسية والإنسانية التي بدأت تنعقد بين ريغان وغورباتشوف، بحيث أثبت أهمية ما يسميه الانكليز بـ «الكيمياء» الشخصية، أي التناسب أو التقارب بين شخصيات الزعماء، وأثرها في المسارات التفاوضية وفي مجمل العلاقات الدولية.
ومعروف أن غورباتشوف قام في نهاية عام 1984، أي قبل ثلاثة أشهر من توليه الأمانة العامة للحزب الشيوعي السوفييتي في آذار (مارس) 1985، بزيارة لبريطانيا. وكانت مارغرت تاتشر قد سبقت جميع الزعماء الغربيين بإعلانها تعريفا، أو تصنيفا، للنجم السوفييتي الصاعد آنذاك، حيث قالت «إني أرتاح للسيد غورباتشوف، ويمكننا العمل معه». وقد أظهرت الوثائق الرسمية التي صارت متاحة في الأرشيف البريطاني هذا العام أن حكومة تاتشر قد استدعت غورباتشوف لزيارة بريطانيا في مسعى «للنفاذ إلى أدمغة الجيل المقبل من القادة السوفييت» ولإقامة «علاقة شخصية وسياسية (مع غورباتشوف) وتعزيز صورة بريطانيا في الأعين السوفييتية». ومن الطرائف أن مستشار تاتشر للسياسة الخارجية تشارلز باول قد أعد لها ملاحظات كتب في إحداها: «لا أدري إن كنت تعتزمين إلقاء كلمة في الغداء، ولكني أرفق بعض الملاحظات التي ربما تعتمدين عليها. ولست متأكدا أن النكات والنوادر سوف تكون لائقة بالمقام، على أن ماركس ذكر في إحدى رسائله لأنغلز (في أيار/مايو 1868) أن أمه قالت ذات مرة: «كنت أتمنى لو أن كارل قام بجمع رأس المال بدل الاكتفاء بالكتابة عنه»!
ولا يمكن القول إن العلاقة الشخصية بين غورباتشوف وتاتشر أو بينه وبين وريغان قد كانت من السلاسة بحيث يمكن الحديث عن تناسب أو تقارب. إلا أن اللافت أن القرن العشرين قد شهد ثلاثا على الأقل من الحالات النموذجية في «استواء الكيمياء بين الزعماء». والطريف أنها جميعا تتعلق بالجارين الفرنسي والألماني. كان التدشين من نصيب الزوج السياسي الاستثنائي: شارل ديغول وكونراد أدناور. وقد توجت علاقة التقدير المتبادل بينهما بمعاهدة الاليزيه التي لم تنه دهرا من العداوة فحسب، بل إنها أسست لشراكة شاملة بينهما عز نظيرها بين أي دولتين أخريين.
الزوج السياسي الآخر هو فرانسوا ميتران وهلموت كول. الأول يساري ومثقف، والثاني محافظ وإداري. بل إن الرأي الذي كان سائدا حول كول في السفارات الغربية في العاصمة الألمانية الغربية بون، حتى أوائل الثمانينيات، هو أنه مجرد سياسي محلي لا مستقبل له على الصعيد الفدرالي. ولكن كول فاز بانتخابات 1983، وبعد مجرد ثلاثة أيام من الفوز زار باريس. ومنذئذ عمل هذا الثنائي في انسجام تام طوال سنوات، وتمكن من التغلب على الصعوبات والتوترات إبان سقوط جدار برلين. بل إن ميتران كان معجبا ببراعة كول في المداورة والمناورة. وكانت الأولوية عند ميتران هي الحفاظ على منجزات معاهدة الاليزيه التي أكد نجاحها صحة قول فيكتور هيغو: «إذا تحقق الاتحاد بين فرنسا وألمانيا، فقد حل السلام في العالم».
أما الثنائي الذي قدم أقوى نموذج في استواء الكيمياء فهو جيسكار دستان وهلموت شميدت. كان شميدت يتميز بحدة الذكاء، وقوة الحجة، وذرابة اللسان والمعرفة الدقيقة بالملفات حتى التقنية والمعقدة منها. وكان شديد الوعي بتميزه إلى حد أنه نادرا ما كان يعدّ أحدا من الناس ندا له (في مستواه). إلا أنه كان يعتبر أن دستان هو أحد القلائل في العالم الذين يضارعونه في فهم القضايا المالية. كان بينهما تباعد في المنشأ. ولد شميدت من علاقة غير شرعية. وصنع نفسه بنفسه، حيث لم يكن لديه ثروة. أما دستان فقد كان أرستقراطي النشأة، وغرست فيه عائلته الثرية الطموح لأن يصير رئيسا. اليوم يتجاوز عمر دستان الثامنة والثمانين، ومع هذا فقد أصدر أخيرا كتابا وضع توطئته صديقه شميدت الذي يناهز السادسة والتسعين! الكتاب يستحق وقفة قادمة. إنه بيان شبابي، يتوقد حماسة، من أجل استفاقة توقف انحدار الحضارة الأوروبية.

٭ كاتب تونسي

مالك التريكي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    مجهود رائع في التلخيص يا مالك التريكي لعنوان يوضح اهتمامك بالنخب الحاكمة خصوصا فيما أنهيت به مقالك عن كتاب يتكلم عن كيفية ايقاف انحدار الحضارة الأوربية من قبل زعيمين سابقين لكل من ألمانيا وفرنسا. وأضيف ثاتشر كانت السبب في انتباه النخب الحاكمة في أمريكا ليس فقط بالنسبة لغورباتشوف بل وكذلك صدام حسين فيما قام به لاجتياحه الكويت في 2/8/1990 حيث موقف أمريكا كان يختلف 180 درجة حسب كلام السفيرة الأمريكية في بغداد، فلثاتشر الفضل في تغيير الموقف الأمريكي كما هو حال رئيس فرنسا أولاند بالنسبة لباراك أوباما رئيس أمريكا فهو من عمل على تحريك الأمم المتحدة ضد داعش بعد سقوط الموصل في 10/6/201.
    الحرب الباردة وسباق التسلح أفلس أمريكا والاتحاد السوفيتي ريغان وغورباتشوف ومحادثاتهم كانت محاولة للخروج من هذه الورطة، وقتها تقدم بحل غرينسبان فتم تسليمه البنك المركزي من أيام ريغان ولا أظن هناك مسؤول أمريكي بقي في منصبه كما بقي غرينسبان في منصبه فقد عاصر ريغان وبوش الأب الذي بحربه الأولى في الخليج صرف كل ما قام بتوفيره غرينسبان، فأتى كلينتون ومن أجل مساعدة غرينسبان تم العمل على تسويق الشّابكة (الانترنت) من قبل نائب الرئيس الأمريكي آل جور، ومن هذه الزاوية نفهم موقف جورج بوش الإبن السلبي من العولمة وأدواتها بسبب مسوقها الرئيسي كان منافسه في الانتخابات التي لم يفز بها إلاّ بقرار محكمة وليس بعدد الأصوات، زاد الطين بلّة ما قام به اسامة بن لادن في 11/9/2001. ولكن حربه على الإرهاب صرف كل ما قام بتوفيره غرينسبان فحصلت الهزة العالمية التي أفلست العالم عام 2008 وهناك تفاصيل كثيرة لمن يحب التفاصيل يجدها في الفيلم الوثائقي الرائع لقناة الجزيرة بعنوان “دهاليز البنك المركزي”.
    وهذا تبين مستوى وعي الشعب وتقدمه عن مثقفينا عندما خرج يهتف “الشعب يُريد اسقاط النظام”
    السؤال متى سيفيق مثقفينا ويتوقفوا عن تسويق بضاعة إن لم تكن فاسدة فعلى الأقل أنها في الانحدار كما يظن زعماء الغرب أنفسهم؟! فأصبح لزاما عليهم التفكير بنظام جديد
    ما رأيكم دام فضلكم؟

إشترك في قائمتنا البريدية