نهايات قصة أوكرانيا

على نحو لافت، يتوازى تقدم الهجمات الروسية مع احتدام حملات انتخابات الرئاسة الأمريكية، ففي كل يوم تقريبا، تسقط قرية أو بلدة أوكرانية جديدة بيد الروس، وتركز القوات الروسية بالذات على منطقة الدونباس الأغنى منجميا وصناعيا وزراعيا، وعلى مقاطعتي الدونباس (دونيتسك ولوغانتسك)، مع تقدم يبدو مدروسا ومتدرجا في مقاطعة زاباروجيا، فيما تبدو الحوادث الحربية ساكنة نسبيا في مقاطعة خيرسون الجنوبية.
والمقاطعات الأربع المذكورة أعلاه، دخلت في دائرة ما تسميه موسكو أراضي روسيا الجديدة، التي قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضمها أواخر سبتمبر 2022، إضافة لشبه جزيرة القرم ومدينة سيفاستوبول، التي ضمتها روسيا إلى أراضيها عنوة، بضربة خاطفة عام 2014، والمناطق الخمس تشكل نحو ربع أراضي أوكرانيا البالغة مساحتها ما يزيد على 603 آلاف كيلومترمربع، ومع العمليات العسكرية النشيطة لإكمال السيطرة وتثبيت القدم الروسية عليها، ربما تكون روسيا انتزعت كامل أوكرانيا الشرقية إلى حافة نهر دنيبرو، الذي يشق البلد طوليا، ودونما ثقة أكيدة بنهاية القصة الحربية، فالقوات الروسية تتقدم في شمال وشرق مقاطعة خاركيف، وربما تستعد لغزو مقاطعة سومي شمال خاركيف، وبهدف معلن عنوانه إقامة منطقة أمنية عازلة بالقرب من الحدود الروسية، ودونما إغفال لنوايا روسيا المبيتة في التقدم إلى ميناء أوديسا وجوارها بمرحلة لاحقة، وغلق إطلالة أوكرانيا على البحر الأسود، بعد سوابق ضم موانئ أوكرانيا بالكامل على بحر آزوف نهاية بمعركة ماريوبول الشهيرة.

المنحى العام للتطورات الجارية، يمضى في اتجاه تراجع النفوذ الأمريكي والغربي عموما، وربما التسليم ضمنا بمكاسب يحققها الروس في الميدان الأوكراني وتعهد ترامب بوقف دعم أوكرانيا حال انتخابه

وربما لا يكون من جديد نوعي في أهداف موسكو المعلنة منذ بدء ما تسميه العملية العسكرية الخاصة في 24 فبراير 2022، الجديد ـ ربما ـ في احتشاد عسكري متبادل على حدود أوكرانيا مع بيلاروسيا، الحليفة التابعة لموسكو، بما قد يوحي بإمكان تكرار عملية الزحف إلى كييف العاصمة الأوكرانية نفسها، وبالطريقة ذاتها التي بدأت بها سيرة العملية العسكرية الروسية، حين تقدمت القوات الروسية إلى كييف من حدود بيلاروسيا، ثم قررت موسكو الانسحاب بعد أسابيع، عندما بدا أن الأزمة على وشك النهاية المبكرة، وجرى التوصل إلى اتفاق مبدئي في إسطنبول التركية، تعهدت فيه أوكرانيا بعدم الانضمام لحلف شمال الأطلنطي (الناتو)، لكن الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي نكص عن الاتفاق سريعا، وشجعه الغرب على تحدي روسيا، وتكاثفت شحنات الأسلحة الغربية المتدفقة إلى الميدان الأوكراني، وبدا أنها تحقق نجاحا في أخريات العام الأول للحرب، وتدفع القوات الروسية للخلف في غرب خيرسون وفي خاركيف، مع أن المعارك كانت لا تزال جارية في مقاطعات الشرق والجنوب الأوكراني، وفي باخموت بعد ماريوبول، وأعادت القوات الروسية تنظيم نفسها بعد النكسات المؤقتة، وأعاد الرئيس الروسي صياغة أهداف عمليته العسكرية، وألزم قواته بتنفيذ قرار ضم المقاطعات الأربع المضافة إلى القرم، وبنت القوات الروسية خطوط دفاع حصينة على طريقة الحرب العالمية الثانية، عرفت حينها باسم خطوط سوروفيكين، نسبة إلى الجنرال الروسي سيرجي سوروفيكين، واستعدت لملاقاة أوسع هجوم غربي مضاد من وراء القناع الأوكراني، كان الغرب يهدف من الهجوم المضاد إلى إخراج روسيا بالكامل من الأراضي الأوكرانية كلها، واستغرق هجومه المضاد كامل شهور صيف العام الثاني للحرب، ومن دون تحقيق إنجازات تذكر على الأرض، اللهم إلا في انتزاع قرية رابوتينو في زاباروجيا وقرية كرينكي شرق خيرسون، ثم عاد الروس لانتزاع القريتين مع غيرهما، بعد الفشل الذريع للهجوم المضاد، ولم يكتف الروس بصد الهجوم، بل واصلوا الزحف والقضم التدريجي النشيط للأراضي، وحققوا اختراقات تكتيكية كبرى في العام الثالث للحرب، خصوصا على محاور غرب ماريينكا وغرب أفدييفكا وغرب باخموت وشمال مقاطعة خاركيف، حتى مدينة ليبتزي وعشرات القرى قبلها، ومن دون إعلان عن تعبئة روسية جديدة، بل من دون إعلان رسمي وقانوني لحرب شاملة، زادوا عدد قواتهم العاملة في أوكرانيا، عبر تكثيف تعاقدات وزارة الدفاع الروسية مع فرق وتشكيلات خاصة، ومضاعفة ميزانية الدفاع والإنتاج الحربي التقليدي كما لم يحدث من قبل، إلى أن زاد إنتاج روسيا العسكري على مجموع الإنتاج الغربي، كما جرى شل تأثير آلاف العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي، الذي عاد سريعا للنمو السنوي بمعدلات تفوق أغلب اقتصادات الغرب، وتكيف مع عقوبات الخنق الغربي، وتوجه شرقا إلى الصين والهند، وعوالم الجنوب الآسيوي والافريقي واللاتيني، وأحبط آثار ما قد يصل إلى عشرين ألف عقوبة غربية، وخلق فضاء متسعا لروسيا في العالم الجديد، الذي يمر بمرحلة انتقال عنيف من هيمنة القطب الأمريكي الوحيد إلى عالم تعدد الأقطاب، ونجح بوتين ببراعة ملحوظة في تمتين أواصر ما يمكن تسميته حلف الشرق الجديد في مواجهة حلف الغرب القديم، وهو ما أكسب حرب أوكرانيا مزيدا من الأبعاد العالمية، وكانت تلك مظلة واسعة، جرت في ظلالها عملية التوسع الروسي داخل أوكرانيا، التي تدفع موسكو بحجة الحقوق التاريخية فيها، وبحق تقرير المصير للأقليات الروسية مهضومة الحقوق في أوكرانيا، وتقارع بها دعوى اعتداء روسيا على أراضي دولة مستقلة مجاورة، يتداخل تاريخها الوسيط والحديث بكثافة منقطعة النظير مع التاريخ الروسي، وبقطع النظر عن السجالات القانونية والتاريخية المتبادلة في الصراع الجاري، فقد شفعت روسيا منطقها الخاص بقوة السلاح، ونجحت في التكيف السريع مع الوقائع المستجدة، وصمدت وتفوقت في الحرب الفعلية مع 54 دولة مقابلة تحت المظلة الغربية العالمية، ورغم دفع واشنطن والغرب كله بمعونات وتدفقات عسكرية، بمئات المليارات من الدولارات، فإن النتائج حتى اليوم، لا تبدو مبشرة للغرب، الذي سعى لجعل أوكرانيا مصيدة للروس، فسقط فيها، وجرى استنزاف قدراته الاقتصادية وأقوى أسلحته في الميدان الأوكراني، ومع التقدم العسكري التكتيكي للروس على الأرض، يبدو بوتين أقرب إلى هدفه الاستراتيجي، فقد نجح في دمج قصة أوكرانيا في رواية عالمية أوسع، أبدى فيها الروس واحدة من مزاياهم التاريخية الفريدة، هي مقدرتهم على التكيف السريع مع المحن والنوازل الحربية، تماما كما فعلوا في الحرب مع نابليون أوائل القرن التاسع عشر، ثم مع حملة هتلر بعدها بنحو قرن وثلث القرن، كان الروس دائما ينهزمون فينهزمون ثم ينتصرون أخيرا، وهو المنحنى الهابط فالصاعد ذاته، الذي تجري عليه مصائر الروس في حرب أوكرانيا، ربما مع فارق ظاهر هذه المرة، فقد كان السياق الأوروبى حصرا هو فضاء حربهم مع حملة نابليون، وكان السياق الأوروبي الأمريكي الآسيوي فضاء أوسع لحربهم مع حملة هتلر، لكنهم يحاربون هذه المرة في سياق عالمي أشمل وأعقد بكثير، تنفجر فيه الحروب وتلتهب التوترات والصدامات، شرقا وغربا وجنوبا، من أزمة تايوان إلى إيران إلى فلسطين إلى قلب افريقيا وسواحل أمريكا اللاتينية، وفيما تتآكل سطوة أمريكا والغرب عموما، وتسقط الأقنعة الغربية قانونيا وأخلاقيا، تتقدم روسيا بتحالفها مع الصين، وتوقع هزائم عسكرية وسياسية واقتصادية بالغرب، وتطرد قواعد أمريكا وفرنسا في حزام الساحل الافريقي، وتهدد واشنطن عند أبوابها اللاتينية وحدائقها الخلفية، وتذهب بمناوراتها العسكرية وغواصاتها النووية إلى سواحل كوبا وفنزويلا، فيما تفشل أمريكا في انقلاباتها على النظم المناهضة لمصالحها، كما جرى مؤخرا في إفشال انقلاب على الرئيس البوليفي التقدمي لويس آرسي، الذي قطع علاقات بلاده مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وانضم لصحوة لاتينية ممتدة ضد الهيمنة الأمريكية والتوحش الإسرائيلي، وهو ما يخلق بيئة مواتية أكثر للتمرد على التسلط الأمريكي والغربي عموما، وحتى في الصراعات الجارية على أرض فلسطين وما حولها، بدأ ظهور الأسلحة الروسية والصينية تباعا في أيدى المقاومين، وقررت روسيا الرد على أمريكا وربيبتها إسرائيل دونما إعلان، وبدا أن حزب الله يستعين بأسلحة دفاع جوي روسية وقذائف مضادة للدروع، فوق تناغم حركة بوتين المنسقة مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، سواء في توسيع نطاق بريكس وتحالف شنغهاي، أو في تحييد فيتنام والهند جزئيا، أو في احتضان كوريا الشمالية وأسلحتها الصاروخية والنووية، ودعمها في مواجهة العقوبات الأمريكية والغربية، وإضافتها لحلف شرق آسيوي جديد بزعامة الصين وروسيا، يواجه ناتو آسيوي بقيادة واشنطن، ممتد من أستراليا إلى اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وغيرها.
وقد لا تكون دراما العالم الجديد قد استقرت بعد على مشهد ختام، لكن المنحى العام للتطورات الجارية، يمضى في اتجاه تراجع النفوذ الأمريكي والغربي عموما، وربما التسليم ضمنا بمكاسب يحققها الروس في الميدان الأوكراني، وهو ما لم يخفه دونالد ترامب في حملات انتخابات الرئاسة الأمريكية، وقد تعهد بوقف دعم أوكرانيا حال انتخابه، والتوصل إلى تسوية واقعية مع الرئيس الروسي بوتين.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية