هل سيكون عصرنا هو عصر نهاية الأدب، أي موت مختلف التعبيرات نظراً لعدم جدواها في عالم أصبح محكوماً بسلسلة من الأرقام والمعادلات الرياضية والقوة، أم هو عصر نهاية الإنسان بكل بساطة في ظل ما يتهدده من مخاطر لا وسيلة تردعها؟ لم تعد النهايات بعيدة كما في المناخات التي سبقت الحربين العالميتين.
أصبح الإنسان المعاصر على حواف حرب تتطور بشكل متسارع. نشم رائحة الحرائق والحروب عن بعد ولا نشعر بأننا معنيون وكأن الأمر لا يهمنا، أو كأن الأمر ثانوي في سلم الاهتمامات.
الحرب في أوكرانيا، في اليمن، في سوريا، وفي ليبيا، غير البؤر العالمية الأخرى كإفريقيا وآسيا؟ وكأن الأمر لا يهمنا مطلقاً بينما زحف النار أصبح فينا ولا يمكن تفاديها بالمنطق الذي نسير عليه اليوم. قنبلة نووية واحدة قادرة على أن تعبر الحدود في دقائق وحتى في ثوان وتبيد كل ما يقع في ظل دخانها؟ كل ما يحيط بنا على مرمى الإفناء المفجع. لم يعد للانتصار في الحروب النووية والتقنية الذكية اليوم أية قيمة. المنتصر والمنهزم سواسية في الخراب والتخريب والموت. وإذا حدث ما نحسه ونستبعده، فلن تقوم للبشرية قائمة. السؤال الحيوي الكبير: كيف ندرأ هذا الخطر الداهم الذي ما يزال شعورنا به قاصراً ومحدوداً. ما يزال المثقفون منقسمين بين مجموعتين تتبادلان التهم، من مع أوكرانيا وأمريكا وبقية الحلفاء الأوروبيين، ومن مع روسيا ومن يناصرها علناً أو صمتاً، وكأن الحرب القادمة لن تمس إلا دولتين فقط، وأنه سيتم التحكم في انتشار الغبار النووي وضبطه في حدود العدو المفترض، بحيث لا تتخطى أية ذرة الحدود «المصونة» والعتبات «المحمية»؟ أضغاث أحلام طبعاً. لا قوة تمنع الإشعاعات من الانتشار على مساحات واسعة. حتى ما يسمى بالقنابل «الوسخة» لن يكون أقل دماراً من النووي. حتى القنابل «النظيفة» التي تفرغ الفضاءات من الأوكسجين دون المساس بالبنيات التحتية التي يجب «الحفاظ» عليها حتى يبرر بها المنتصر مكاسبه. عالم اليوم على هذه الحواف، يُفترض أن يكون النقاش الثقافي والأدبي في الواجهة كما حدث في الحربين العظميين وفي الصراعات السياسية الكبرى حول حائط برلين أو 68 في فرنسا. الصمت والتواطؤ هي اللغة الوحيدة الملاحظة وانسحاب شبه كلي للمثقف على الرغم من أن العالم اليوم على شفير نهاية مفجعة.
ماذا يمكن للثقافة عموماً، وللأدب بالخصوص، أن يفعله في ظرفية قاهرة كهذه؟ هل يمكنه أن يعيد العساكر المتحكمين في المصائر البشرية إلى جادة الصواب؟ هل للآداب العالمية في أرقى صورها القدرة على فرض الإنصات والاستماع لصوتها الإنساني العميق؟ هل هناك من يسمعها وهي في عز اشتعالها؟ هو بالضبط الموضوع الذي يهم الدوائر الثقافية الإنسانية لجعل العالم يتفادى أي انزلاق. يناقش اليوم الكثير من المهتمين بالشأن الأدبي، مسألة في غاية الدقة والحدة، أحياناً بيأس كبير: ما جدوى الأدب في عالم النار، والقنابل النووية التي يمكنها أن تمسح الأرض من الوجود مائة، أو حتى ألف مرة، ولا تبقي فيها شيئاً إلا اليباب؟ ما دور عالم الهشاشة أمام عالم الغطرسة والقوة؟ كل المساحات الممكنة سرقت، فماذا بقي للأدب في النهاية؟ الإجابة بسيطة؛ بقي للأدب كل شيء، ولا شيء؟ لا شيء، طبعاً إذا اتخذنا منطق القوة المادية مقياساً التي يتحكم فيها جنرالات وضباط قد لا يكون مستواهم المعرفي ورصيدهم الإنساني يساوي الشيء الكثير، لكن إذا كانت النظرة شمولية سنقول سيبقى للأدب كل شيء.
نعرف جيداً المسارات الحضارية للإنسان، ماذا بقي اليوم من الرومان؟ الفرس؟ العثمانيين؟ الإمبراطوريات الأوروبية التي هزمتها الحروب؟ النازية؟ يبقى للأدب الشيء الكثير ليقوله إذا اعتبرنا أن عالم الأدب أكبر من لحظة مادية طارئة. فهو ذاكرة تعتمل في عمق الأجيال المتعاقبة وتربط بعضها ببعض، وتسهم في خلق نموذج إنسان اليوم أو إنسان المستقبل. في الشخصية الأوروبية الحضارية اليوم، يتخفى سحر الإلياذة والأوديسة وحروبها، وعقلانية ابن رشد، و»ماكبث» لشكسبير، و»إني أتهم» لإميل زولا وهو يدافع عن الحق المداس ضد دريفوس، و»زوربا» نيكوس كزانتزاكي في استماتته من أجل إنسانيته. يوجد أيضاً جورج أورويل في استشرافه في «1984» وعالم بيغ بروزر البغيض ونقيضه الذي هزمه. ينام أيضاً «هكذا تحدث زرادشت» بكل جبروت فكره. في ذاكرة الذين يعبرون أمامنا في المطارات، وقاعات السينما، والمسارح، وفي الشوارع الواسعة، شيء من إلياذة هوميروس، وزمن مارسيل بروست الضائع، وكارمن لميريمي.
لا يمكن لهذا العالم المخزّن في أعماق الإنسان ألا يترك آثاره العميقة والجليلة، ويمنح الحياة مساحات لا تحصى للحلم حتى عندما تنغلق هذه الأخيرة. لنا أن نطرح هذا السؤال على أنفسنا في العالم العربي، نحن الذين لا نقرأ كثيراً، أو لا نقرأ إلا قليلا بالقياس إلى الأمم الأخرى، ماذا فعلنا نحن؟ الغد يصنع اليوم بعيداً عنا وخارجنا. ماذا منحناه غير أوطان تتمزق وموت يتربص به وبأحلامه ورماد بلدان ظننا إلى وقت قريب أنها لن تموت أبداً، وأنها ستقاوم؟ إنسان الغد لا نصنعه اليوم، لكنهم يصنعونه لنا، مفرغاً من الداخل، سهلاً، خالياً من روابط الثقافة كقيمة إنسانية وليس كاستهلاك. نحتاج إلى كثير من الصبر وإلى كثير من الثقة، لنفكر في أمر كهذا، مصائرنا معلقة به.
نعم، للأدب ما يقوله، وللفنون المصاحبة له ما تقوله، في عالم معقد ليس مكوناً فقط من اقتصاد وطائرات حربية وقنابل عنقودية ونووية، ولكن أيضاً من نصوص أدبية تعيد لنا إنسانيتنا كلما هربت منا، شعر يهزنا ويذكرنا بطفولتنا المسروقة، وروايات تذهب بنا بعيداً نحو الأراضي البكر التي يمكن لنا أن نبني فيها أجمل البيوتات التي لا تعصف بها رياح الحروب لأنها في عمق إنسانيتنا، وهي الحلم نفسه. وحده الحلم يبقى ولا يموت، ويقاوم الحروب والمهالك التي يفرضها قوي اليوم على بقية سكان المعمورة. الأدب في النهاية مقاومة لحفظ إنسانية مهددة بالانتفاء.