اهتم الكاتب والسيناريست يسري الجندي في معظم أعمالة الدرامية برصد التحولات الاجتماعية في ظل المُتغيرات السياسية الفجة، ومحاولة القوى الإمبريالية فرض نفوذها على دول العالم الثالث بطرق شتى، فعمد إلى تصوير ذلك فنياً وإبداعياً للفت النظر إلى خطورة ما يُحاك من مؤامرات ودسائس تُدبرها دول الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لتحقيق حُلم الهيمنة وتمكين إسرائيل من ممارسة دورها العدواني تجاه فلسطين، وكثير من دول المنطقة العربية، وعلى رأسها مصر.
في مسلسل «نهاية العالم ليست غداً» الذي كتبه الجندي وأخرجته المخرجة علوية زكي في عام 1983 كشفت الحلقات الدرامية المنسوبة في حينها إلى الخيال العلمي، عن تصورات الدول الاستعمارية الكبرى لكيفية تغيير خريطة الشرق الأوسط عبر وسائل وأدوات غير مباشرة، تهدف إلى هدم المُجتمعات العربية المُستقرة إيذاناً بإعادة صياغتها على الطريقة الحديثة، وفق الرؤى الأمريكية والأوروبية. وضماناً لتحقيق ذلك بدأت عمليات التغيير التدريجي بتخريب منظومة التعليم والبحث العلمي، مع تشجيع مواز للثقافة الاستهلاكية، وإبطال مفعول القيم التربوية ليتسنى للمُتربصين بالأوطان تنفيذ المُخطط بعيد المدى بشكل مُنضبط وخطوات راسخة. كانت هذه هي مفاتيح الخطاب التحذيري لأستاذ الفلسفة «رياض عبد ربه» حسن عابدين بطل المسلسل الذي استشعر الخطر مُبكراً وحاول الوقوف في وجه الرياح العاصفة بكل ما هو ذو قيمة أخلاقية وإنسانية، غير أنه توقع حدوث حرب إلكترونية تشنها دول التقدم العلمي على الدول الصُغرى، لإفساد جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية كافة، وتهميش دور الأفراد والسخرية من كل جاد ومُفيد، واللعب على وتر الرغبات بإفشاء العُري وإباحته، ونشر الفتن بين عناصر المجتمع الرئيسية، كالرجل والمرأة والزوج والزوجة، باختلاق ما يُسمى بالتمييز العنصري لصناعة الأزمات العائلية، وإحداث التفكك الأسري تمهيداً لتفكيك المجتمع بالكامل.
لقد اختار الكاتب يسري الجندي مسرحين أساسيين للأحداث الدرامية في مسلسلة «نهاية العالم ليست غداً» – البيت والمدرسة – باعتبارهما موطنين ثابتين للتفاعل والاحتكاك بين الأفراد، حيث يمثل اختراقهما ضربة قاصمة لأي مجتمع نام أو متقدم، فمن خلالهما يمكن تحقيق معادلة التخريب بكل سهولة وبساطه. فمن المدرسة بدأت مشكلة الدروس الخصوصية والمنافسة الضارية بين الأساتذة، ومنها انسحبت المشكلة على القيادات التعليمية وتواطؤها مع الفساد مُتمثلة في انحراف ناظر المدرسة عن جادة الصواب، وهو الحلقة الوثيقة بين الطلاب والأساتذة وصمام الأمان الذي لم يعد يؤدي دورة كما ينبغي أن يؤدى. ناهيك عن اضطهاد العناصر المُستقيمة والتآمر عليها والمُشار إليها في المسلسل بشخصية مدرس الفلسفة «رياض عبد ربه» الذي يُعاني من الممارسات الشريرة لعُصبة المدرسين الفاسدين، وهو إسقاط ذكي على ما يحدث بشكل عام داخلياً وخارجياً.
وفي ما يخص الأزمات الناشئة في البيت وهو المسرح الثاني للأحداث، كما أسلفنا، فإن ظواهر التحول السلبي بدأت من جشع الزوجة الانتهازية المُستغلة، التي جسدت دورها ببراعة المُمثلة الراحلة عايدة عبد العزيز، تلك التي تدافع بحماس عن نشاط شقيقها حسن مصطفى، الذي يتاجر في كل شيء غير مبالٍ بالقيمة أو التاريخ فهو استثماري كبير كوّن ثروته بطرق مشبوهة في عصر الانفتاح ويسعى لشراء الأراضي والبيوت والمحلات، ويبذل قصارى جهده لتحويل الحارة المصرية الشعبية الأصيلة إلى سوق تجارية كبرى يُباع فيها كل شيء مقابل ثمن باهظ. كذلك تبدو آيات التغيير والهدم القيمي في سلوكيات الابن محمود الجندي، الشاب الطموح الطائش السابح مع تيار المنفعة الرخيصة، والمُفرط في كل ما هو غالٍ ونفيس طالما وجد المال وتوافرت له المصلحة الشخصية، وتبقى «إيمان» الشابة الجامعية (فايزة كمال) التي تشبه أباها حسن عابدين في طبيعته ومبادئه وأخلاقه، فهي أيضاً تُعارض فكرة البيع وتؤمن بالمبادئ والمُثل العليا وتواجه غضب الأم بثبات وقوة.
أما الشخصية المحورية في المسلسل فهي شخصية «الدرديري» توفيق الدقن عالم الفلك الذي يسكن السطوح ويتنبأ طوال الوقت باندلاع الحروب وموجات الإبادة التي تشمل كل الدول الصغيرة، إلا من استسلم وأذعن ونفذ الأجندة الغربية والأمريكية بحذافيرها، الدرديري يُمثل في السياق الدرامي الضمير اليقظ للعالم الفطن الذي يرى ما لا يراه الآخرون ويتوقع ما يُمكن حدوثه وفق نظريات القياس العلمي، ولا يجد حلاً للأزمة إلا بهبوط كائنات فضائية تُخلص العالم من بلطجة الأباطرة ونوازعهم المُدمرة، كونهم شخصيات عدوانية بالفطرة لا سبيل لمواجهتها إلا بقوة مضادة قادرة على الردع. وإزاء التمسك بأمل المقاومة الفضائية الخارقة، يُتهم عالم الفلك بالجنون في إشارة ساخرة من المؤلف والكاتب إلى إحكام قبضة المتآمرين وانغلاق دائرة التآمر على الدول المُستضعفة للحيلولة دون امتلاكها للقوة، لتسهل السيطرة عليها ونهب ثرواتها وضمها للمشروع الاستعماري التوسعي المُخطط له منذ سنوات.
هكذا قدمت الدراما المصرية في نموذجها المضيء قراءة سياسية لقضية مُعاصرة نعيش بصدد أحداثها الآن، ونتابع فصولها عن كثب، فلم يخرج ما تنبأت به عن تفاصيل الواقع الراهن.
كاتب مصري