نوبة الغريبة/يوتوبيا الأوهام المزمنة

نشرت رواية: «نوبة الغريبة» لمحمد الأمين بن ربيع، بداري النشر «ضمة» الجزائرية و«مسكلياني» التونسية/ الإماراتية، في 2022. تتكون الرواية من 188 صفحة على نمط روايات محمد الأمين بن الربيع، متوسطة الحجم.
تتحدد الكثير من ملامح الرواية من خلال «العتبات» النصية الأولى التي تفصح منذ بداية النص عن أسرار الرواية الخبيئة؛ أولاً العنوان الملتبس: «نوبة الغريبة»، التي تحيل إلى مقام من المقامات الأندلسية بالعنوان نفسه «نوبة الغريب» وهو من النوبات الضائعة، كان يُتغنى بها في فن الموسيقى الأندلسية وهي محفوظة في كتاب يجمعها كلها يسمى الديوان. النوبة هو الاسم الذي يطلق على تجزيئات الديوان الكبرى، عدد النوبات حالياً هو 11 نوبة، أما في الأصل فقد كانت هناك 24 نوبة بعدد ساعات اليوم حيث توافق كل نوبة ساعة من ساعات النهار والليل وفق نظام محكم ومسبق. كما تحيل كلمة مقام إلى حالة من الحالات الصوفية أو واحدة من المراتب التي تقود صاحبها إلى التخلي عن خيوط الحياة السابقة والتشبث بخيوط حياة جديدة قد ترفعه عالياً، بعيد عن عالم الماديات.
اختار الكاتب عنوان الفصول مع إدراج تصديرات شارحة بشكل رمزي عن الفحوى العميق وغير المدرك للفصول، ومنها «فاتحة النوبة» لابن عربي: «فابتدأ بذكر النساء وأخر الصلاة… فمعرفة الإنسان بنفسه مقدمة على معرفته بربه»، أي الإنسان سيد عقله في المعرفة وقبل الغرق في المجردات والميتافيزيقا، عليه أن يلتفت لنفسه للقوى الباطنية العارفة. الإنسان إذا عرف نفسه عرف متجليات الله في مخلوقاته. ثم «غرابة النوبة» التي أتت هذه المرة من الكاتب نفسه «أمين»: «بعض الشخصيات في هذه الرواية تكاد تتطابق مع شخصيات حقيقية لكنها ليست هي. تشكل هذه الفاتحة اعترافاً مسبقاً بأن ما سيرويه السارد سيجد تفسيره في الواقع الحي؛ أي إمكانية وقوعه من صراعات اجتماعية وتقاليد وسياسية. ثم نصل إلى الإهداء الملتبس بين شخصية حقيقية قريبة من الكاتب، ولكن أيضاً قد تحيل إلى «شهرزاد» التي قاومت غطرسة شهريار بالحكي وقول الحقيقة باللغة وسلطانها، على الرغم من أنها عاشت معه ألف ليلة وليلة في اغتراب كلي. فهي كل ليلة عندما تنتهي من حكيها تنام في حضن قاتلها ولا تدري ما سيحدث في الغد «إلى شهرزاد مبتدأ النوبة». فهذه الشخصيات وإن أحالت إلى شيء حقيقي في المجتمع فهي ليست في النهاية إلا تشكيلات لغوية تحيل أيضًا إلى ذواتها. من هذا كله ينشأ فعل الغرابة بين الاعتراف والتسليم بالحقيقة ونفيها في الجزء الثاني من الجملة. تحت عنوان الفصل الأول من الرواية «كفن البروكار»، يقتبس الكاتب جملة دون ذكر مصدرها، من يوسف زيدان: «لماذا أخاف الموت؟ خليق بي أن أخاف من الحياة أكثر، فهي أكثر إيلاماً». وهذا ما يحيل إلى أسبقية الحياة حتى في عذاباتها. الحياة صعبة وقاسية، نعيشها بعيون مفتوحة بينما الموت هو نهاية النهايات حيث لا شيء إلا الظلمة التي ينعدم فيها الإحساس بهذا الخوف. حياة بركاهم لم تكن أمراً هيناً. معاناته ورحلتها القاسية جعلتها تتحمل كل شيء. من إنسانة بسيطة، من ثمرة رجل دراجي حلم بتسمية ابنه الأول على جده الدراجي، وامرأة لا سلطان لها في إنجاب البنات فتدفع ثمن قدر لم تصنعه بتحمل زوجة ثانية، خولان، جيء بها لإنجاب الذكور. ويعري الكاتب الوسط البوسعادي الشبيه بالوسط البدوي أو الريفي الجزائري، المعتمد على الخرافة والتغييب الكلي للعقل.
يسير المتن الروائي لمحمد الأمين بن ربيع بشكل متواتر ومبشر بروائي مميز سيحتل المشهد الروائي بجدارة واستحقاق، وقوة سردية أبانت ليس فقط عن موهبة عميقة في المجال الروائي، ولكن عن قدرات إبداعية وفنية كبيرة. ليس غريباً؛ فالمتتبع لتجربة محمد الأمين سيلمس ذلك حتماً من خلال كتاباته السابقة التي أثارت اهتمام مؤسسات كثيرة تهتم بالجوائز، مثلاً «عطر الدهشة» و»بوح الوجع» وروايته «قدس الله سري» التي تحصلت كلها على جوائز وطنية وضعت الكاتب في الواجهة، أهمها جائزتا «علي معاشي» وجائزة آسيا جبار للآداب، التي أوصلت «نوبة الغريبة» إلى القائمة القصيرة. ويمكن إضافة جائزة الهيئة العربية للمسرح الثانية عن نصه المسرحي «كفن البروكار» هو العنوان نفسه الذي يحمله الفصل الأول من الرواية (ص11) ولمسرحية «كفن البروكار» امتداد واضح في نص الرواية. التناص الداخلي، بل التماهي ههنا، يشكل ظاهرة مهمة عند هذا الكاتب. نجد في الرواية الكثير من إشارات المسرحية، مثلاً البروكار وآلة الخياطة وصوتها الحاد، وفنونة الخياطة، بل حتى في اسم الشخصية المركزية كماتشو خديم الانهزامي، نده في الرواية وهو الحالم بمنح اسم الجد الأول لابنه في الرواية، وبركاهم خديم، وعزالدينة تراس زوجه خديم، ولعبة تصنيع الأسماء بين المسرحية والرواية. يستحق ذلك اهتماماً أكاديمياً للموازنة بين النص المسرحي والنص الروائي. كما تحصّل الكاتب على جائزة أفضل نص مسرحي في الطبعة الأخيرة من مهرجان المسرح المحترف عن نصه «موت الذات الثالثة»، وهي المسرحية التي فازت بالجائزة الكبرى للمهرجان.
تجربته الإبداعية تجلت بوضوح أكثر في روايته «قدس الله سرّي»، إذ يأخذنا الكاتب «محمد الأمين بن ربيع» إلى مدينته «بوسعادة» مع بدايات القرن الماضي في توصيف دقيق لهذه الواحة الجميلة، وقد أرفق هذا العمل السردي بطقوس الصوفية والدروشة التي تشكل الخلفية الحية لمعظم رواياته. واعتمد على حقائق تاريخية انطلق منها لسرد الأحداث الحياتية والتاريخية التي امتدت الرواية على مدار 196 صفحة، حاول فيها الروائي أن يضيء فترة حية من تاريخ الجزائر، حين كان الوطن لا يزال تحت سيطرة الاحتلال الفرنسي. ينطلق السرد من حادثة شكّلت منعرجاً حاسماً في حياة بطل القصة «نائل بن سالم» الذي أحبته امرأة فرنسية «أدريان مورياك» لتترك كل شيء وراءها وتهرب معه، متخلية بذلك عن حياتها السابقة، ومن خلال هذه الحادثة تنفتح مساحات السرد أكثر من خلال «الفلاش باك» الذي يشكل فعلاً جمالياً جوهرياً في كتابات محمد الأمين الروائية.
تكاد هذه الرواية أيضاً تنتظم كلياً على لعبة «الفلاش باك». لحظة واحدة تفصل بين خبر موت قاسم الدساس وتكفينه بالبروكار الدمشقي الأبيض الذي كان يفترض أن تلبسه. من خلال «الفلاش» ينشأ هذا النص. قاسم الرجل الذي حماها وأدخلها عالم السياسة من خلال الغناء، هو منظم الانقلاب ضد الرئيس الرخوي الضعيف، المنفي. حادثة بداية الرواية ونهايتها تلتقي في قماش البروكار. تطلب من مرافقيها تكفينه بلباسها لتنهي عصراً بكامله من الاستغلال، تحت دهشة الجميع قبل أن ينقل إلى مقبرة العالية وظهور ابنه ثامر الدساس الذي يبحث عن وصية والده طمعاً في المال، وهو الذي لم يظهر قط في الرواية.
قدمت لنا الرواية بدءاً من فاتحة النص incipit سيرة أو عناصر من سيرة بركاهم خديم وعائلتها، في خط سردي، عاصر حقباً زمنية مختلفة من تاريخ الجزائر، من فترة الاحتلال الفرنسي إلى غاية تسعينيات القرن الماضي المصاحب للحرب الأهلية والعشرية السوداء. ويروي الروائي ابن ربيع حياة بركاهم المليئة بالأحداث والتناقضات والمفارقات، جنباً إلى جنب اكتشاف حياة قاسم الدساس، الرجل المنتسب إلى جهاز الدولة، والذي صنع من بركاهم «بهجةً» لإمتاع النظام الذي يغضب منها لأنها غنت للرئيس المخلوع أغنية «يا رفيق الروح» التي كان يحبها. الشخصية الروائية بركاهم خديم، وهي مقابل للتسمية في الغرب الجزائري «حدهم»؛ أي يكفي، وتطلق عادة على العائلة التي لا تنجب إلا البنات، فيتم التبرك بحدهم لتوقف سيل البنات وانتظار أن تنجب المرأة ذكوراً. سيرة عائلة بركاهم في مواجهة الاستعمار معقدة بسبب الحاجة والفقر، تقرر ذات يوم مغادرة البيت بحثاً عن عمل بعد وفاة الأب، فتعمل رقاصة في فندق القايد، ثم تغادر المكان هرباً من مهنة لم تكن تعرف أنها تخضع لقواعد وضوابط، فتقتحم عالم السياسة والفن ومغامرات العيش من خلال رجلها قاسم الدساس المنغمس في النظام والانقلابات، وهو من نفى الرئيس الذي كانت شخصيته ضعيفة. يكتفي الكاتب ببعض الترميزات التي تحيل إلى شخصيات سياسية حقيقية في النظام الجزائري. تجد نفسها في دوائر معقدة ومغلقة إلى أن تدركها العشرية السوداء التي دمرت ملامح المجتمع القديم نسبياً وفرضت مقاربات أخرى بالدم والموت والجريمة. تنقل إثرها نحو الجهة الغربية في العاصمة لمحمية، لكنها حياة مؤثثة بالرعب والكوابيس والموت المحتمل في كل زاوية. فتفقد خولان حياتها في السجن، وكادت روفيا تنال المؤبد بسبب تهم التواطؤ مع الإرهاب. تبذل جهودها لكي لا تسقط في العدمية التي اخترقت المجتمع الجزائري حيث تساوت الحياة بالموت. حتى عندما عاد قاسم من ألمانيا بعد علاجه من طلق ناره أصابه به الإرهابيون، وجدها قد تحررت منه وغادرت البيت الذي اختاره لها في القبة واشترت بيتاً في سطاوالي، إذ لم تعد الصغيرة التي أخرجها من ملهى الكواكب، واختار لها اسم الفنانة «بهجة»، وتعود إلى حلم العودة إلى بوسعادة. من خلال سردها المباشر، تدخلنا بركاهم خديم داخل نظام يشبه الدمى الروسية التي كلما فُتحت واحدة، برزت ثانية وثالثة ورابعة وخامسة، حتى الدمى المتناهية الصغر الذي تخفي جوهر الإنسان الأول الذي تمت سرقة داخله ونهبه وتحويله إلى مجرد دمية في يد الآخرين. بركاهم ترفض هذا القدر المفروض عليها وتصنع قدرها بيدها بالرغبة في العودة إلى مآلها الأصفى- بوسعادة: «صوت ثامر الدساس بلهجته البوسعادية، أيقظ فيّ حنيناً إلى بوسعادة، جعلني أقرر الذهاب إلى هناك في أقرب فرصة وآخذ معي رفات خولان وأعيد دفنها إلى جوار أمي وإخوتي، ثم أزور بيت آل خديم لأتفقد طفولتي الأولى».

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول امينة:

    من موسيقى الروح الى يوتوبيا لاوهام الى مقامات الصوفية الى الطفولة الدفينة التي ان ضاعت يضيع الانسان معها قراءة ممتعة وتحليل دقيق حقا الرواية حياة واستمرار

  2. يقول البشير ضيف الله:

    توصيف جميل من روائي مقتدر لايجامل ..قبعة التقدير ..

إشترك في قائمتنا البريدية