تحصَّل لي في هذا العام، تحديداً، مالم أتحصَّلُه منذ تسعة عشر عاماً؛ أعني آخر مرة وقعت صحيفةٌ ورقٌ بين يدي، في قبرص.
زوجتي وضعت أمامي، على الفراغ المليء لسماء الانترنِت، ثلاث صحف عربية أستعرضُها عشر دقائق، في صباحي، لاأجاوزها إلى شيء آخر أبعدَ مما تقع عيناي منها على رسومِ خطوطها. عِداءٌ عنيدٌ، غير مفهوم، بيني وبين الكومبيوتر، ومشتقاته المستخرجة من جوفهِ العنكبوت. كارثةُ العصر اللاأخلاقية، في سوريا، أرضختني لقبول العرْض بتسوُّقِ الأخبار مرتعداً، مكسوراً، نائحَ الخيال كلما قرأت حروف اسم ‘أوباما’، الذي قايض سوريا، إسرائيليًّا، بما تقبل به إيران ثمناً من كيميائيِّ الوحش الأسد، ومن ‘وعود’ بشأن نوويِّها، مقابل امتلاك إيران لسوريا. أعرف أنني سأقوِّض الكلمات رثاثةً في وصفِ كراهيتي رستْ على رُسُلٍ إلى حطام سوريا، كلٍّ من موضعه مبعوثاً عن هيئةٍ، أو نائباً عن دولة كـ ‘وجه البغل’ جون كيري (كما وصفتْه صحفُ بلده في زمن الترشيحات للرئاسة الأمريكية)؛ وفي توصيف أكذوبة الفرق بين اللون ‘الأحمر’ كإنذار، واللون ‘الأسود’ كحظٍّ من بَشَرات الإنسان: الدَّابي ـ ربيبِ سيده البشير، وكوفي أنان المنافق، وحسين أوباما الأذلِّ في حضرة نتنياهو لعْقاً لوعوده بحل للمسألة الفلسطينية، والأذلِّ الأذلِّ في حضرة بوتين بالتسليم لـ ‘جلال’ الشرير المنتصر. أما المبعوث الرابع، الأفريقي الأبيض، فهو بلا لون.
تمنَّيتُ، وأنا قادم بهذه المقالةِ، واجبةِ التأخير، عن ‘هُمرجان’، نوبل الأدب بعد انحسار سُعارها، ألا تكون السطورُ أعلاه مدخلاً. لكنني، كأيِّ سوري متألم من احتلال إيرانَ بلدَه، أنزف سطورَ الشتائم أولاً في أنساب الأخلاق وأمهاتها. وأصرخ في أعماقي، أبداً، أن حسين أوباما لايشبه أحداً في ‘خَلْعِهِ’ السوريين، كخلع موسى الأشعريِّ الخاتمَ، في التحكيم، من إصبع يدِهِ النفاقِ فيثبِّتَه، من ثم، في إصبع يدِهِ الأخرى الإيرانية. حرقةٌ لابأس بقليل من الركالة في عرضها، كأنْ لكلِّ الألمِ، متعدِّداً، لسانٌ واحد: الصرخةُ بلا بلاغة.
لطالما تمنيتُ أن تُجمعَ التواقيعُ على ‘عريضة’ إلى الأكاديمية النروجية، طَلَباً لاسترداد نوبل السلام، ولو رمزيًّا، من حسين أوباما، الذي نالها بأبخس وعود نيلاً يشبه إهانة الجائزة نفسها. رجلٌ لاأخلاق. رجلٌ كذْبٌ. رجلٌ نفاقٌ. رجلٌ .. تتعثر عيناي باسمه، يومياً، حتى قرارٍ قادم بتعليق النظر إلى الانترنِت، من جديد، فيما تبقى من قليل أيامنا.
على وقْعِ الوجود المتقوِّض في أعماقي، قُيِّضتْ لي طرافةُ العبورُ من هُدَام نوبلَ السلام في اسم حسين أوباما النَّحس، إلى نصف الظلِّ الثاني لنوبل الأدب برقشه العربي، من مُنىً أُمهاتٍ في السخاء إلى تلفيقاتٍ بلا ابتكار، مُذْ دالت دولةُ الانترنِت بأعاجيب حضورها نظاماً، وأحكاماً، وقضاءً. كانت الجغرافيا الأدبية، في حدود ممكنة من ضبط النقد لأخلاق النصوص، وتفاريع النصوص، وتمحيص الأخبار ولو بقدْرٍ خافت من الوثوق. وكان ‘للرقيب’ القائم على الإختيار مهازلُه الكثيرة حجباً، وخفضاً، لكنْ له اقتدارٌ مَّا ثقافةً تخوِّله الإنتقاء وفق المقبول من قيمةٍ، مما يُنشر في الصحافة اليومية، أو المجلة المتخصِّصة.
انتهى هذا. كلُّ ‘موقعِ تواصلٍ اجتماعي’مملكةُ الجالس أمام آلته ـ الجيوشِ، والرعايا، والمطابخ، وحقول الزرع، ومطارات طيرانه. كُتَّاب لم يكتبوا قبلاً؛ لم يجدوا ممراً إلى نشر قبلاً. لايهم. لكلهم، الآن، صِلاتٌ، وعلائق، ومخاطَبات، وأشعار، وأنثارٌ (من جَمْعِ الشاذ المُعْتَمد)، يجاورون من لهم ‘باعٌ’ في ‘سطوة’ الكتابة، و’سطوة’ حضورهم كتَّاباً.
إنه حقٌّ مؤيَّد قطْعاً ـ حقُّ الحرية في اختيار المرءِ خيالَه تعليقاً، وتعبيراً، ورسائلَ؛ لايحوجه إِذْنٌ في المُساجَلة أو النشر. إنفجارٌ مهول، إذاً، من مَنْبتِ الكونِ الذرَّة إلى الكون اللانهائي. كل شيء يُدَاخِلُ كلَّ شيء؛ يحيلُه ويستحيل. خصائص متجانسة، وأخرى متفارقة. ‘مواقع التواصل’ ـ الحدائق بغبار الطلع، والأسدية، والمدقات. ماينبت في بستان ينبت في الآخر أيضاً. والتعميم مذهلٌ: مايُذاع على عاهنه يؤخذ على عاهنه، وكذا عكسُه، اقتباساً مبذولاً. لاحَصْرَ لحقٍّ. مايظهر هنا يظهر هناك، في حيِّز الضربة بالإصبع على فم الفانوس السحري: العالم متجانساً في يقين الصور، والمذابح الصور، والكلمات الطرائف والأطعمة، والانتصارات، والتشهير المُثير. عالمٌ يُحاكى: ‘المواقعُ’ ملأى بصور أصحابها، وأخبارهم، ونصوصهم، ومواجدهم، ومواجعهم، وانتصاراتهم على الوحدة ـ أُمِّ أعماقهم.
هكذا، مَنْ ‘تمنَّى’ عن شغفٍ، أو تقدير، لمُعْجبه فوزاً بمآثر الممكنات غَدَتِ الممكناتُ حاصلةً تُشْهَد وتوثَّق. يكبر النقْلُ من النقْل. تعثر ‘الأمنية’، أخيراً، على مقامٍ في ‘استطلاعات’ النقْل عن النقل، والتخمين عن التخمين، والتوقُّع عن التوقُّع، والشائعةِ عن الشائعة. قناةُ أخبارٍ تنقل عن مقالةٍ نقلتْ عن ‘موقعٍ’ نقلَ عن ‘صفحة’، نقلت عن ‘مفكر’ عربي أن الأكاديمية السويدية ‘استشارته’ في اختيار اسمٍ فاختار روائية، لم يتردد حرفٌ من اسمها في ذاكرةِ سويديٍّ.
ماذا هنا؟ باتت أكاديمية السويد ‘تستشير’ عرباً (!!!). ستغدو ‘الإستشارة’، في الأرجح، عُرْفاً سنوياً تتدرَّج به ‘النعمةُ’ تواتراً عن قناة تلفازٍ عن ‘موقعٍ’ عن ‘صفحةٍ’ عن رغبةٍ عن أمنيةٍ، أن ‘المفكرين’ العرب ‘استُشيروا’، ككهنة النجوم، فرفدوا الأكاديمية السويدية بقائمة من سبعة وستين اسماً (!!!). من يدري. ربما أذِنَتْ ساعةُ استشارة أهل نوبل لقراصنة بحر الصومال، متهيئين لدفع فدية مَلَكية لقاءَ اسمٍ ‘دَسمٍ’. وممَّا نُمي إليَّ أيضاً، من المغاليق المكشوفة في بستان الصحف أنَّ روائياً عربيًّا يكتب بالفرنسية، عَزا ‘حَجْبَ’ الجائزة عن شاعر يتكرر ترشيحه إلى وقوفه ضد الثورة السورية. لقد أصاب حَرْقدةَ الحقيقة (والحرقدة ـ تفاحة آدم ـ من خصائص عنق الذَّكر). وَلَكان أصاب كبدها، أو كُلْيتها، لو تلطَّف في تهذيب الوقْع فعزا الحَجْبَ إلى معقولِ حاصِلِه: أيْ أن الشاعر لم يُمنح الجائزة لأنَّ الأكاديمية ‘فضَّلت’ عليه اسماً آخر. مقامُ الخبر، بلا لبس، هو ‘التفضيل’، وليس الثورة السورية المغدورة ـ كما لم يُغْدَر بثورة حتى قي القرن الماضي ـ بأشدِّ آلات الدهاء وقيعةً وفَّرها الوقتُ للإيراني نَقَلَ معسكراتِ ‘القاعدة’ من أرضه إلى سوريا، وللوحش السوري أفرغ أقبيةَ احتياطه من التكفيريين في أرض سوريا، وللمالكي أفرغ سجون العراق من ‘القاعدة’ على حدود سوريا. فلا يتصنَّعنَّ حسين أوباما ‘قَلَقاً’ من دورٍ عراقيٍّ ‘مشبوه’، من ممرات سمائه وممرات أرضه: لقد أتحفه المالكي بما يريد من تبريرات الإحجام عن فعل أيِّ شيء للشعب السوري بدعوى تكاثر الإرهابيين، الذين يرسلهم أصدقاؤه المصنَّفون ‘أعداءً’، في أكبر تزوير للتاريخ الظاهر من العلاقات، لاتاريخ الباطن. أوباما وفَّر ‘الوقتَ الإرهابيَّ’ للزمن في سوريا. وقتٌ تأنَّى حسين أوباما في صناعته، وأعانه على الصناعة خَوَلُه من حكام أوروبا الكَذَبة.
من يدري؟ قد يذهب ‘تعليلُ’ الروائيِّ في أمرِ ‘الحَجْب’ مذهبَ الخبر مُستقىً من ‘مصادرَ’ في الأكاديمية السويدية نفسها (!!)، ويغدو ‘التعليل’ المقتبَس من تأثير أقاصيص ‘اللص الظريف’، الباريسي، أرسين لوبين، من مباني التحليل والتأويل. والملفت في ‘تعليل’ الروائي ماورد من خبر عن عزم الأكاديمية السويدية، في سنينَ خَلَوْنَ، منحَ جائزتها مناصفةً إلى إسرائيلي وفلسطيني معاً، فرُفضت الفكرة، أو هكذا فهمتُ. أي أن الأكاديمية ‘تستمزج’ الرغبات، وتتَّصل بموكَّلين عن حظوظ أهل الحظوظ قبل إعلان الجائزة (!!!!!). غرائبُ سُمَّارٍ لم يقرأوا جحا.
ينبغي، ربما، كي لاأبدو ‘متعجرفاً’ في السخرية من بعض الوقائع في عالمنا، أن أدعم منحى ‘زَعْمي’ أن الأمر ليس كله صحيحاً، بمثالٍ غير مُخْتَلَق، أو متوهَّم، أو مُتَمَنَّى، بل موثَّقِ الخبر. قد يعتريني بعض الحياء، لكن لامنجى: المثال الذي أسوقه هو نفْسي لاغير، مذ رأيتُ أن ‘أُتِمَّ’ الصورة ‘الإفتراضية’ لِمَا لحظْتُه متداوَلاً من تصنيف للمحظوظين بالوصول إلى ترشيحات نوبل، وللمحتَمَلين، وللمؤكَّدين، أو للذين جاوزوا الترشيحات قليلاً بأقدام داخل ردهةِ الأكاديمية السويدية. أيْ أن أضع في ‘الثَّبْت’، بين التمني والواقعية، شيئاً من أخبار الحاصل، الذي لم يتداوله أحدٌ إلاَّ في خبرين أُرسلا، يومها، من السويد، بالعربية، عن ترشيحي ـ أنا الفقير إلى الدعاوة.
ليس عندي ‘موقع’ من مباهج التواصل ‘الإجتماعي’. ليس عندي صفحة في الإنشاء الذَّري على شاشة الكومبيوتر ‘اصرِّح’ عليها، بيقين الصِّور، ونسج ‘الأخبار الدُّرر’، عن أعمالي، عربيِّها ومُتَرْجَمها المتواضع مُذْ عرقَتْ قلوبُ المترجمين في إنجازها، بجهدٍ أخلاقيٍّ في المقام الأول الذي لامقامَ بعدهُ، وبعنادٍ أيضاً، لأنَّ صفحاتٍ قليلة منها استغرقتْهم مايستغرقُ مترجِماً كِتابٌ عربيٌّ من عيارٍ ثقيل الورق. لم أُساوِمِ التَرجمةَ على لغةِ خيالي. قَدَري هكذا صعبٌ في قضاء الكتابة حتى الإيمان أنني، مُذْ كتبْتُ السطر الأول، تخيَّرتُ لنَفْسي خساراتٍ لاتحصى في الترجمة، التي كنت سأستعرض منها كتباً موفورةً على الرفوف في بيتي.
ليس عندي من أتخيَّره لـ ‘تسريبٍ’ إلى ‘موقع’ دَفْعاً من أقوال الصحف السويدية، التي يسيل اللعاب العربي من نسيم ورقها إنْ هَبَّ، أو رشَاشاً من أصواتٍ تعليقاتٍ. الأمورُ، كلُّها قَيْدُ حدوثها في المكان السويدي، لم أُجاوز بها إلى أيِّما مكان.
حين يُجاهر ناشري ‘الوقور’، الذي أصدر لي، حتى اليوم، ثمانية كتب نثراً وشعراً، بلغة أجداده، أنني على ‘قائمة’ نوبل فليس في الأمر مزاحٌ سويديٌّ. وفي تعليق منه على فوز الصيني مويان، العام الفائت، أخبرَ أنه توقَّع اسمي فأتاه الأسمُ الآخر. كان سعيداً على أية حال، فأعمال الروائي الصيني من إصدار داره، أيضاً، ككتبي. ولدى ناشري، من بين رافديْهِ بالترجمات عن الصينية، عضوٌ في الأكاديمية السويدية نفسها، مُبَالِغٌ في وَسْمِيَ بـ ‘الفريد’.
ليس هذا حَسْبُ. فمجاهرة ناشري هي عن مصدرٍ ليس ‘أمنيةً’ أن يحظى كاتب عنده بنوبل، بل سياقٌ متصل من ضمِّ اسمي إلى اللائحة عن يَدَيْ رئيس الأكاديمية السابق، ورئيسها اللاحق. لم يجاهر نقلاً ‘عن’ مواقع تواصُلِ الرغبات؛ ليس ‘عن’ متَّصلةٍ’ بـ ‘عن’، بل بتوالي التوقُّعات السنوية دَرَجَتِ الصحفُ عليها، صَباحَ يوم نوبل، فتكرَّر اسمي، مراراً، عن أفواه أدباء، ونقاد مقتدرين، ‘يُخشى’ جانبُهم ـ جانبُ السمعة التي لاتُمَس، وهم يستخلصون توقعاتهم من أمزجة في أوساط الأكاديمية على أية حال.
في العام 2011، بلغت التوقعات بشأني أوجها. رسائل وردت إلى هاتف زوجتي، وهاتف ابني من أصدقاء له أفاقوا ذلك الصباح على خبر متداول في المرئيات عن كاتب يقيم في ‘سكوغوس’ (ضاحية أقيم فيها من ستوكهولم) هو ‘الأوفر’ حظًّا. وكان الخبر مرفوقاً بصورتي من غلاف أحد الكتب. قبل موعد إعلان الجائزة بدقائق، كان مديرُ الندوة القائمة على باب نوبل، وهو صاحب البرنامج الأدبي الأكثر شهرة في السويد: ‘بابل’، يردِّد اسمي، مراراً، حتى إطلالة أمين سر الأكاديمية معلناً فوز الشاعر السويدي الشيخ.
‘قد’ أدعم زعمي هذا بالإحالة إلى ‘موقعٍ’ استُحدثَ في ذلك العام من قِبل هيئة رسمية، تعريفاً بالمقيمين الأدباء، على وجه التحديد، وباللغة العربية، فيه اسمي موصوفاً بالترشيح لنوبل. وتعريفٌ كذاك لايُدوَّن على محْمَل المُزاح. لابأس. هدأ السُّعار الآن. كادت الأرواح تبلغ التَّراقي قَذْفاً بمنجنيق ‘الاستطلاعات’. وأنا لستُ متأخراً في توضيح ‘مَثَلٍ’ أوردْتُه، على سبيل المَثَل، تصحيحاً للنقصان من السياق ‘المضطرب’ بالأماني، وأنَّ بعض ماتجري به جداولُ ‘الاستطلاعات’ ليس ‘صحيحَ البخاري’.
لربما تذكَّر هذه المقالةَ أحدٌ مَّا، في ‘مفاوضات الأماني’ الشاقة على باب نوبل ‘العربي’ سنة 2014، أيْ بعد موعد الانتهاء المُفترض من تدمير مزابل كيميائيِّ الوحش الأسد، لتوفير ‘عرينٍ’ إيرانيٍّ بهندسةٍ روسية، أكثر نظافة، يتَّسع، من جديدٍ، لأَضعاف القنائصِ البشرِ من شعب سوريا ـ صورةِ الهزيمة الكبرى للأخلاق.
أتمنى أن ينال سلبم بركات جائزة نوبل كي يكون هذا الفعل تجسيدا وخاتمة للكوميديا العربية.
تكبر في عين الصغير الصغائر
أدناه قائمة بإسماء مرشحين آخرين…عبدالقادر الجنابي. عبدالمنعم الفقير. عبدالدائم شريف والشاعرة عفيفة ومشتقاتها.