بعد أن حصلت الشاعرة الأمريكية لويز غلوك على جائزة نوبل في الآداب هذا العام، انطلقت كثير من التساؤلات وسط المثقفين والقراء العرب، عن أحقية هذه الشاعرة المجهولة تقريبا لدى القراء هنا، لتلك الجائزة الرفيعة، القوية، بينما شعراء وكتاب كثيرون لامعون، يستحقونها، وتتصدر أسماؤهم الترشيحات السنوية، لكن لا جديد: المبدعون دائمو الترشيح صامدون، وجائزة نوبل من نصيب مبدع ليس معروفا كثيرا، على الأقل لدينا في البلاد العربية.
في الحقيقة أنا أتابع تداعيات نوبل كل عام كقارئ، ومتسقط للأخبار والاحتفاليات الثقافية عموما، أحيانا أجد نفسي أعرف من منح الجائزة جيدا، وقرأت له شيئا من قبل، ربما يكون أعجبني أو لم يعجبني، هذا ليس مشكلة، لأننا نقرأ فنعجب بما نقرأه حينا ولا نعجب به أحيانا، ويمكن بالطبع أن أفاجأ بالاسم، وأبدأ في البحث عنه، وإن كان مترجما للعربية أم لا؟ أو على الأقل كتبه متاحة بالإنكليزية، التي ربما أطرقها إن تعذر العثور على نتاج مترجم.
لقد حدث أنني كنت أعرف الكاتب التركي أورهان باموق حين منح جائزة نوبل، وقرأت له ما تيسر من الروايات القصيرة، ثم لأقرأ رواية «ثلج» الضخمة التي ترجمها الراحل عبد القادر عبد اللي، وأغرق فيها، وتصبح بما فيها من ثراء حكائي ومعرفي، وما تعالجه من قضايا كانت ملحة وقت كتابتها، أحد الأعمال المفضلة لديّ.
والواقع أن أورهان باموك، كان في نظري يستحق الجائزة، تماما مثلما كان يستحقها ماركيز، ونجيب محفوظ، وفارغاس يوسا، وتستحقها دوريس ليسنج، وتوني موريسون، ونادين جورديمر، الجنوب افريقية، التي كتبت بروحها روايات تجسد الصراع العنصري في بلدها، مثل: «شعب يوليو» و«بلد آخر» وغيرهما.
وحين زرت اسطنبول لأول مرة، كان همي الأساسي أن أبحث عن معالم تلك المدينة التي وردت في كتابات ما موق، وفعلا، كانت كما توقعت.
بالمقابل لم أكن أعرف الفرنسي جان ماري غوستاف لو كليزيو، الحاصل على الجائزة منذ أثني عشر عاما كما أذكر، ولم يعجبني بعد أن قرأت له عملين، وهذا كما ذكرت لا يخفض من قيمته، لأن القارئ ليس حكما حقيقيا على الكاتب، ولا يحق له أن يستفز الكتابات التي لا تعجبه، ومن كتبها كما يفعل بعض القراء عندنا حين يعلقون بلا دراية أو انضباط على ما لم يحبونه، وربما ارتفعت نبرة تعليقاتهم لتندد بمنح جائزة ما لأولئك الكتاب، ونبت لديّ يقين أن مراجعة الكتب، تحتاج بالفعل إلى دورات تدريبية، يشرف عليها قراء متمكنون ومنضبطون.
الكاتبة التي لم أكن أعرفها، وفاجأتني كقارئ، هي الألمانية الشرقية: هيرتا مولر، هذه في رأيي كاتبة حقيقية، فقد كتبت قضايا وطنها الملحة، تعرضت لمآسي الهجرة وأحوال المهاجرين، والديكتاتورية في بلدها الأصلي رومانيا، وكانت لغتها هادئة، شعرية، مملوءة حياة، وقلت مرة أن هيرتا مولر تمنحك البؤس بكثير من الرفاهية اللغوية، وفي الوقت نفسه بعيدا عن الفخاخ العاطفية، وأعتقد أن نوبل في حالتها، وفي حالة البولندية: أولجا توكارتشوك، التي حصلت عليها العام الماضي، وآخرين لا أذكرهم الآن، كانت بمثابة تقديم مهم لأصوات، ربما لم نكن لنسمع بها لولا تلك الجائزة الكبيرة.
وحين زرت اسطنبول لأول مرة، كان همي الأساسي أن أبحث عن معالم تلك المدينة التي وردت في كتابات باموق، وفعلا، كانت كما توقعت.
بالنسبة للحاصلة على الجائزة هذا العام، لويز جلوك، أو غلوك كما تكتب أحيانا، قلت إن رود فعل كثيرة تلت إعلان فوزها، ولأنها مجهولة لدينا، واعترف كثير من المثقفين والقراء، بأنهم يسمعون بها للمرة الأولى، فقد حاول البعض التقليل من حجمها وأهميتها، وأنها لا تستحق الجائزة، التي يجب أن ينالها واحد مثل ميلان كونديرا، تجاوز التسعين وما زال ينحت في سكة الأدب بكل جدية وصبر، وهاروكي موراكامي، الياباني الذي يعتبره كثيرون ساحر كتابة ذكيا، متمكنا، وشخصيا دخلت عالمه لفترة، عبر عدد من أعماله، وخرجت منه لأن قراءته تتطلب تفرغا تاما، وهو ما ليس متوفرا لدينا كقراء وموظفين حكوميين، وكتابا، في الوطن العربي.
أريد أن أقول، إن عدم السماع بمبدع ما، ليس سببا للتقليل من شأنه، وعدم الإعجاب به أيضا، ليس سببا، وما تراه مجهولا، مؤكد لديه صيت كبير في بلده، وفي لغته الأصلية، ولطالما اعتبرت اللغة العربية، لغة ثانوية لدى تلك الشعوب، وبعض الكتاب الغربيين حتى لا يحبذون ترجمتهم إليها، بينما نحن كعرب، نتراقص سعادة إذا ما أتيحت لنا الترجمة لأي لغة غربية، حتى لو طبعت لنا نسخ محدودة.
لقد ترجم شيء من الشعر للويز غلوك، ونشرت لها دار الجمل مجموعة شعرية منذ سنوات، وكان هناك من قرأها وعلّق عليها، سلبا أو إيجابا، وكل ذلك لا يهم، فالشاعرة الأمريكية في النهاية، حملت تلك الجائزة، التي رأى محكموها أنها تستحقها.
بالنسبة لنا نحن العرب، نعرف وربما يعرف محكمو نوبل، وأعضاء لجانها الأدبية أن فينا من يستحق الجائزة، إن كان الموضوع يأتي بالتميز والمثابرة والبصمة الكتابية، وكان من الممكن أن تمنح لواحد مثل محمود درويش أو حنا مينه، أو عبد الرحمن منيف، أو الطيب صالح، أو جمال الغيطاني، والآن من المفترض أن تمنح لتجربة شاسعة مثل تجربة الروائي الليبي إبراهيم الكوني، الذي خاض بسحر كتابته الصحراء، وحفر فيها واستخرج الدرر، هذه تجربة عربية مهمة، سواء أن اتفقنا عليها أم اختلفنا معها، لكن للأسف كما قلت لا تلتفت الجوائز الكبرى لما يبدعه العرب، وكانت التفاتتها لعالم نجيب محفوظ، شيئا قد لا يتكرر مرة أخرى.
٭ كاتب سوداني
مقال جميل كالعادة يا دكتور امير،
/وكان هناك من قرأها (أي لويز غلوك) وعلّق عليها، سلبا أو إيجابا، وكل ذلك لا يهم، فالشاعرة الأمريكية في النهاية، حملت تلك الجائزة، التي رأى محكموها أنها تستحقها/..
هذا ما يُسمَّى باللغة الماكيافيلية بالبرهان القاطع /الغاية تبرِّر الوسيلة/ تحديدا.. هل ستقول الشيء ذاته عن روديارد كيبلينغ الذي مُنح جائزة نوبل رغم كونه أول من مجَّد الإمبراطورية البريطانية أدبيا بكل ذينك الدمار والخراب اللذين سببتهما للبشرية.. ؟؟ وهل ستقول الشيء ذاته أيضا عن ونستون تشرشل الذي مُنح جائزة نوبل كذلك رغم كونه أول من أمر باستعمال أسلحة التدمير الشامل المحرَّمة دوليا ضدَّ الثوَّار العرب والأكراد حينذاك.. ؟؟
وماذا، أخيرا، عن أولئك الأدباء والمفكرين الذين يحترمون أنفسهم قبل أي اعتبار آخر من أمثال جان بول سارتر، ماذا عن رفضهم تلك الجائزة عينها رفضا قاطعا /رغم منحهم إياها من قبل لجنة نوبل نفسها/ لأسباب تتعلق بأسأسة هذه الجائزة الأدبية “الأرفع” في العالم بوصفها أصلا سعيا تكفيريا عن تلك الخطيئة الكبرى التي ارتكبها آلفرد نوبل نفسه في المقام الأول.. ؟؟
كلام كله درر، أختي الجليلة الدكتورة آصال أبسال
أتابع كتاباتك الجميلة واللمّاحة والألمعية باستمرار هنا وهناك
ففيها ينابيع لا تنضب من ما ينور العقل والنفس من شتى مجالات الثقافة
في النقد الصحافي والإعلامي والنقد الأدبي والفكر الفلسفي والنفسي وحتى الفنون
مرة ثانية جازاك الله خيرا وسدد خطاك أينما حللت وأينما نزلت
كل المحبة والمودة
أحلام الأحمد