جائزة نوبل للسلام لهذا العام التي منحت مناصفة للفتاة الإيزيدية العراقية نادية مراد، التي كانت من سبايا تنظيم “الدولة الإسلامية” والطبيب النسائي الذي يعالج ضحايا الاغتصاب في جمهورية الكونغو الديمقراطية دينيس ماكويغي، وجاء في نص منح الجائزة، أنهما منحا الجائزة هذا العام لـ”جهودهما لوضع حد لاستخدام العنف الجنسي كسلاح حرب”.
هذا المقال لن يكون عن جائزة نوبل، ولا عن مأساة الإيزيدين، ولا عن استحقاق نادية مراد للجائزة، بل سيدور حول سؤال مفاده: كيف ننظر لأنفسنا في كل تفصيلة من تفصيلات يومنا؟ سأنقل لكم تعاطي المتلقي العراقي مع خبر بهذا الحجم، وسيكون تناولي منصبا بشكل رئيس على ردود أفعال عينة من العراقيين على صفحات الفيسبوك. الملاحظة الأولى كتبها صديق بعد وقت قصير جدا من اعلان الجائزة حين قال ملخصا الموقف في منشوره، “لم أر بلدا مثل العراق، كل مشتركي الفيسبوك فيه يجب أن يدلوا بآرائهم في حدث اليوم. عندما تفتح صفحتك تنهمر عليك المنشورات فتجدهم جميعا قد كتبوا عن موضوع واحد، كلهم فجأة باتوا أصحاب أفكار وآراء، وكلهم مفكرون وتنويريون ومدافعون عن مبادئ العدل وقيم الأمة، والحقيقة أن كل واحد منهم عمل نسخا ولصقا من الثاني، والتنوع الوحيد بالأمر أنهم يجب أن ينقسموا إلى فريقين متخاصمين، ويبقى كل فريق عايش على النسخ واللصق. بعد خمس دقائق ستشعر بالغثيان من الفيسبوك ومن الموضوع، حتى إن كان الأسعد أو الأحزن أو الأهم، وستهرب مضطرا من هذه الجعحعة”.
الحق، أن هذا المنشور قدم توصيفا دقيقا لما يحصل مع كل خبر عراقي، بغض النظر إن كان حقيقيا أو مجرد إشاعة لم يتم تأكيدها بعد، فمدى مصداقية الخبر لم تعد تهم من يحب أن يشارك منشورات طازجة قد خرجت للتو من أفران (الراسخون في العلم) بدون تمحيص أو تأكد، ليحظى بما بات يعرف في العراق بـ”الطشة” التي تعني الانتشار حتى إن كان لأسباب تافهة. كما أن انتشار نظرية المؤامرة التي تعتاش على فضاء الكراهية، الذي أصبح سمة لمنصات التواصل الاجتماعي أيضا، بات ظاهرة يجب أن نتناولها في موضوع نوبل نادية مراد.
شخصيا كنت قد شاركت خبر فوز نادية مراد بجائزة نوبل بعد دقائق من الإعلان عن الجائزة، وبعد حوالي نصف ساعة علقت سيدة كردية وهي إحدى صديقاتي في الفضاء الافتراضي، وهي ناشطة مهتمة بقضية إبادة الايزيدين، علقت بما يلي “شكرا استاذ صادق على نشر الخبر، لكن المؤسف بعد ذلك انهمار القنابل البشرية عليها الان، وخاصة من العراقيين الذين لا يرحمون”، وهذا ما تم فعلا وبالحرف الواحد. ردا على اتهامات وتهكم البعض، الذين اشاروا إلى أن هذه الجائزة تمثل وصمة عار في جبين العراق وليس مصدر فخر، لانها منحت لنادية التي تعرضت للاغتصاب، كتب بعض الكتاب والصحافيين الحاذقين مسارعين إلى ايضاح سبب منح الجائزة لهذا العام، وقدموا شرحا موجزا مهما مثل هذا المنشور الذي كتبه صحافي عراقي “يصادف هذا العام مرور عقد من الزمن على اتخاذ مجلس الأمن الدولي القرار 1820 لسنة (2008)، الذي قرر أن استخدام العنف الجنسي كسلاح في الحروب والنزاعات المسلحة يشكل جريمة حرب وتهديدًا للسلم والأمن الدوليين. وهذا موضح أيضا في نظام روما الأساس لعام 1998 الذي يحكم عمل المحكمة الجنائية الدولية. ينص النظام الأساس على أن العنف الجنسي في الحرب والنزاع المسلح هو انتهاك خطير للقانون الدولي. لا يمكن تحقيق عالم أكثر سلما إلا إذا تم الاعتراف بالحماية وحقوق المرأة وحقوقها الأساسية في الحرب. وقد وضع كل من دينيس ماكويغي ونادية مراد أمنهما الشخصي في خطر بمكافحة جرائم الحرب بشجاعة، والسعي لتحقيق العدالة للضحايا. لقد عززا بذلك أخوة الأمم من خلال تطبيق مبادئ القانون الدولي”.
نظرية المؤامرة التي تعتاش على فضاء الكراهية أصبحت سمة لمنصات التواصل الاجتماعي لدى العراقيين
لكن من جانب آخر كانت الكتابة المغلفة بالكراهية بارزة هذه المرة بشكل لافت، والمثال الأبرز لهذا الاتجاه تمثل في منشور أنقله (بأخطائه وهفواته) يقول “هذه الجائزة الألمانية منحت لغايات وتفاسير كثيرة، وليوهموا العالم بأن الدين الإسلامي دين دموي فنادية موجودة في كل وقت ومكان ولا ننسى الشخص الذي قام بإنقاذ ناديه من داعش وتحمل ما تحمل من مخاطر، وعند ذهابه إلى ألمانيا لم يستقبلوه كلاجئ، إنها مؤامرة ضد العرب !كما فعلو في تمثيلهم لفيلم النبي محمد (ص)”.
لكن ناشطا مفوها حاذقا في صياغات نظرية المؤامرة، يقدم في ما ينشر معطيات وأدلة وروابط المواقع لمصادره، فينتشر ما يكتبه انتشار النار في الهشيم، قال في منشوره “ما ليس مشكوكا به، هو ما فعلته نادية مراد بزيارتها لإسرائيل، حيث سمحت لنفسها أن تستخدم كسوط من السياط التي يتم بها جلد المسلمين، ليس إلا. وقد انطلقت هذه الحملة من جديد لتستفيد من (حاملة جائزة نوبل التي اغتصبها الإسلام)، بل إن الحملة تستخدم من قبل الصفحات المشبوهة لدق إسفين آخر بين الشيعة والسنة، وتحقير العرب وليس المسلمين فقط، كما تبين الصورة المرفقة”.
كما نبش البعض في قصة نادية مراد للعثور على الثغرات، أو ما خفي ليخرجوه للعلن في هذه اللحظة الحاسمة، ووجدوا ضالتهم في قصة الشاب الذي ساعدها على الهرب من الموصل، وما حل به وبعائلته بعد ذلك، وقد انتشرت هذه القصة بشكل كبير ايضا، ورد عليها وفندها آخرون، مثل المنشور الذي ذكر كاتبه “كمية البوستات التي هاجمت نادية مراد، والتسقيطات والطعن بما جرى لها، والتشكيك بقصتها مقرفة لدرجة فضيعة جدا.. كل ذاك التسقيط والنيل منها فقط حسب زعمهم لأنها لم تذكر منقذها عمر عبد الجبار في قصتها.. على الرغم من انها ذكرته غير ما مرّة !نادية ذكرته في كتابها الذي أصدرته، بل هو الشخصية الرئيسة في روايتها.. ماذا تفعل أكثر من ذلك.. خلّدته في كتاب ينتقل من جيل إلى جيل.. والكتاب كما يعلم الكل هو أفضل توثيق وتدوين. في كتابها “الفتاة الأخيرة: قصتي مع الأسر، ومحاربتي ضد الدولة الإسلامية)، روت نادية مراد تفاصيل مثيرة عن اغتصابها وبيعها وإساءة معاملتها من قبل أعضاء التنظيم، ومحاولاتها الهروب. وفي الإصدار، أشادت نادية بعمر عبد الجبار وعائلته، متسائلةً “لا أعرف لماذا كان جيداً، بينما كثيرون آخرون في الموصل كانوا فظيعين للغاية”. عمر هو الشخصية الرئيسية في كتاب نادية مراد، وقد جاءت إشارتها له تحت اسم مستعار هو (ناصر)”.
بينما حاولت بعض الأصوات العقلانية أن تنشر نتفا واضاءات مركزة ومباشرة عن الموضوع، وفي اعتقاد كتابها أن ذلك سيساهم في الحد من موجة الكراهية التي انطلقت لتغلف موضوع نادية مراد والجائزة وإسرائيل والماسونية والإمبريالية المترصدة بمجتمعاتنا في كل دقيقة. وقد حاول كاتب صحافي أن يبين الصورة بشكلها الواقعي فكتب “حبّوبي/ حبّوبة .. لو بقيت القضية على نادية لتاهت، ولو إنها بقيت علينا لانطمرت، نادية فتاة مسكينة ومنكسرة ورأت ضيما أسود حالك السواد. نحن نعرف كيف نخاطب أنفسنا، أقصى ما يمكن أن نعمله مهرجان شعر للايزيديات المنكوبات، وربما برنامج وثائقي يطل علينا من خلاله محلل سياسي يخنقنا بـ (إننا ونحن). لكن الشغل الذي أوصل نادية وقضية المغتصبات- قضيتنا- كان طموح المحامية أمل كلوني التي لم تشتغل على شهرة زوجها جورج كلوني النجم الهوليوودي، وإمكانيات مكتبها فقط، بل طرقت كل أبواب مكاتب وشركات الاستشارات الإعلامية والقانونية. شغل وحركة وعلاقات عامة كانت نتيجتها وصول نادية لمجلس الأمن وأمل كلوني تقف جوارها وتسندها، أوصلتها للإعلام، إعلام مردوخ وليس قناة العراقية! مردوخ الذي عنده آلاف المحررين، وعنده القدرة على التلاعب بإعلام العالم باصبعه الصغير. أنفاسه يكتبها محرروه من استراليا إلى هاواي لتصبح خبر رقم واحد في العالم، وليس (عاجل) لمليون ضحية بسبب المفخخات وحوادث اختطاف ملّ منها حتى نهردجلة”.
الوجه الكوميدي من موضوعنا المأساوي تمثل في أن نسبة كبيرة من مشتركي الفيسبوك من العراقيين أصبحوا فجأة مستشاري جائزة نوبل للسلام في النرويج، وباتوا يقدمون قوائم مقترحة لأسماء من يستحقون الجائزة أكثر من نادية مراد، فعددوا شهداء الحشد وشخصيات لعبت ادوارا مهمة في قتال عصابات “داعش”، بل وصل الامر إلى ترشيح رجل دين بمقام وأهمية السيد السيستاني لجائزة نوبل، فهل رأيتم كوميديا أكثر إثارة للبكاء من ذلك؟
*كاتب عراقي
لم تذكر نادية علناً من أنقذها من داعش وكان سبباً في وصولها لمأمنها وبالتالي جائزتها !! ولا حول ولا قوة الا بالله