في عددها الأخير تجاوزت أسبوعية الـ«إيكونومست» البريطانية كلّ عذابات الشعب اللبناني الراهنة، من فقدان الدواء والوقود والغذاء وانهيارات العملة المحلية، إلى غياب تشكيل الحكومة وتعنّت جنرال بعبدا وبواخر نفط «حزب الله» التي تأتي ولا تأتي؛ فسمحت لمحرري قسم الشرق الأوسط أن يغطوا لبنان من زاوية غير منتظَرة: زراعة أشجار الزيتون وإنتاج زيت الزيتون! وهو خيار قد يبدو أقرب إلى رفع المعنويات وحثّ الأمل من جهة أولى، أو أكثر وفاء لروحية المجلة في معالجة الشؤون الاقتصادية من جهة ثانية؛ غير أنّ المادة، القصيرة والوصفية والخالية من الأرقام والإحصائيات، كانت من جهة ثالثة تنصف الشجرة ذاتها في محمولاتها الرمزية قبل معطياتها الاقتصادية، وتعيد التذكير بما للزيتون من موقع خاصّ وفريد في ذاكرة المتوسط، والعالم بأسره في الواقع.
ومادة الـ«إيكونومست» أعادتني إلى كتاب بديع، لا يخلو من أوجه طرافة شتى، صدر بالإنكليزية سنة 2014 بعنوان «أوديسة الزيتون: البحث عن أسرار ثمرة أغوت العالم» كتبته الباحثة والمستكشفة والرحالة الكندية جولي أنغوس بعد أن وقعت في غرام زيت الزيتون خلال زيارة إلى أقاربها السوريين في حلب، أصحاب مزارع زيتون وإنتاج زيت في عفرين. الغرام بدأ مع تذوّق «الزيت وزعتر» حيث احتوت «الخلطة» على زعتر وسمسم وسماق وتوابل ومردقوش؛ وتواصل مع رحلة بحرية فريدة قطعت أنغوس خلالها 7,000 كم عبر المحيط الأطلسي والمتوسط، من سكوتلندا إلى الساحل السوري، لاستكشاف أسرار الشجرة وما يقترن بثمارها وزيتها من أسرار زاخرة: زراعية وطقسية وأسطورية ودينية ومطبخية واقتصادية…
في عفرين سوف تستمع أنغوس إلى أقاصيص الكرد عن شجرة يعود تاريخ زراعتها إلى 20,000 سنة، مرتبطة ليس بالثمرة وزيتها فقط، بل كذلك باستخدام أغصانها كرموز تودّد وتحبّب وعروض سلام ومواسم خطوبة وزواج؛ وأمّا في موقع إيبلا الآثاري فستتبصّر المؤلفة في ألواح طينية عمرها 4,400 سنة تحمل نقوشاً لأشجار زيتون، يرجّح الآثاريون أنها زُرعت في إيبلا قبل 6,000 سنة. هذا عدا عن البُعد الديني للشجرة وزيتها في القرآن، كما تشير أنغوس، وفي الإنجيل والتوراة على قدم المساواة. وليس بغير مغزى خاصّ أنها تبدأ أوّل الفصول العشرة في كتابها باقتباس جميل من الروائي لورنس داريل، صاحب «رباعية الإسكندرية» يقول: «البحر الأبيض المتوسط بأسره، كلّه يبدو ناهضاً في المذاق الحامض اللاذع لحبّات الزيتون السوداء هذه بين الأسنان. مذاق أقدم من اللحم، وأقدم من النبيذ. مذاق قديم مثل الماء البارد».
كتاب آخر يتوجب إنصافه أيضاً: «الزيتون: حياة وحكمة ثمرة نبيلة» للمؤرّخ وذوّاقة الطعام والمعلّق السياسي الأمريكي مورت روزنبلوم؛ الذي قد يكون، في حدود ما بلغت معرفة هذه السطور، التاريخ الأعمق والأغنى لهذه الشجرة المتوسطيّة الكونية. وللمؤلف مع الزيتون حكاية حقيقية، كانت الباعث وراء وضع هذا الكتاب الفاتن، الأشبه بقصيدة مفتوحة على اللغات والقارّات والثقافات والأديان والعادات الزراعية، في مديح ثمرة نبيلة مباركة. وليس غريباً، استطراداً، أنه يصدّر كتابه بالآية الكريمة: «الله نور السموات والأرض. مَثلُ نوره كمشكاة فيها مصباح. المصباح في زجاجة. الزجاجة كأنها كوكب درّي يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية. يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. نور على نور».
ففي عام 1986 اشترى روزنبلوم مزرعة عتيقة في منطقة البروفانس الفرنسية، ورث معها 150 شجرة زيتون مهملة، فقرّر «إحياء» هذه التركة النفيسة؛ وجاء كتابه بمثابة حكاية اكتشاف شجرة الزيتون أوّلاً، ثم الثمرة ذاتها تالياً، وصولاً إلى تقاليد استثمارها شرقاً وغرباً. لكنّ العمل أدب رحلات أيضاً، لأنّ فصوله تصف اقتفاء أوطان شجرة الزيتون: من فرنسا إلى الأندلس، ومن المغرب وتونس إلى فلسطين وسوريا، ومن تركيا واليونان إلى البوسنة وكرواتيا وتوسكانيا الإيطالية، ومن كالفورنيا إلى المكسيك. ولقد اغتنم عشرات الفرص لكي يسجّل «سياسة» ثمرة الزيتون: كيف يقطع جيش الاحتلال الإسرائيلي أشجار الزيتون، وكيف يحتطب أطفال سراييفو أغصان الزيتون لا للتدليل على السلام بل لاستخدامها كسيوف حين يلعبون لعبة الحرب، وكيف تفرض المافيا الإيطالية احتكاراً ثقافياً – مالياً على زراعة الزيتون وعصر زيت الزيتون، وكيف انقسم زيتون اسبانيا ذات يوم إلى ملكي وجمهوري…
ولن نعدم، في هذَين الكتابَين وسواهما، عشرات الاستعارات الحارّة الخاصة بأرواح البشر، في وصف حيوات الشجرة والثمرة والزيت: إنها شجرة الله، ولهذا فهي شجرة فقراء الله؛ وهي الذهب الأسود الحقيقي في بلاد العرب، قبل آلاف السنين من انبثاق البترول؛ وليس عجيباً أن تكثر الضواري في البلاد التي تعيش على الزبدة واللحوم، بدل الزيتون… وفي فلسطين تحديداً سمع روزنبلوم تفصيل العلاقة بين الثمرة والجسد الإنساني، حين قال له زارع زيتون من جنين: «نحن بلا زيتوناتنا أشبه بأوراق في مهبّ الريح. شجرة الزيتون هي الأرض، وأجسامنا تتشكّل على هيئة الشجرة. كيف تتخيّلنا إذا قطع الاحتلال أجسادنا هذه؟».
هنا، كذلك، بعض المغزى الرمزي في ذهاب الـ«إيكونومست» إلى لبنان من بوّابة ثلاثة مزارعين، بينهم امرأة، اختاروا شجرة الزيتون؛ ربما على أمل أن تتوكأ عليها الأرزة الشهيرة، رمز لبنان العليل المنتهَك المعذّب.
في الحقيقة، وبمثابة إشارة تعتبر حتى أقدم من كل الإشارات التي ذُكرت في الكتابين المذكورين، كتاب جولي أنغَس «أوديسة الزيتون: البحث عن أسرار ثمرة أغوت العالم» وكتاب مورت روزنبلوم «الزيتون: حياة وحكمة ثمرة نبيلة» (بحسب ترجمة الكاتب)، فقد ورد مشهد الطوفان في النص القرآني في العديد من الآيات الكريمة، من أهمها هذه:
«وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِين» (هود:44)
وحينذاك أرسل نوحٌ الحمامةَ البيضاءَ الشهيرة للتأكد من زوال الطوفان، فجاءته تلك الحمامةُ حاملةً في منقارها غصنَ زيتونٍ، وكانت قدماها موحلتين بشيء من الطين، كدليل على انخفاض منسوب ماء الطوفان، وعلى أن الأرض مؤهلة للإعمار لبداية الحياة من جديد.. ولهذا السبب، غدت الحمامة البيضاء وحدها، في بادئ الأمر، رمزا للسلام العميم.. ولكنها صارت، بالإضافة إلى غصن الزيتون الذي تحمله بمنقارها، رمزًا للسلام العالمي، وذلك حينما استخدم بابلو بيكاسو كلا من الحمامة البيضاء وغصن الزيتون في فمها كرمز لهذا السلام العالمي في إحدى لوحاته الشهيرة.. !!
جزيل الشكر موصول إلى الأخت آصال أبسال، ولإفادة القارئات والقراء في فهم الآية الكريمة المستشهَد بها، أورد هنا نص هذه الآية مرفقا ببعض الشروح اللغوية، كما يلي:
«وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِين» (هود:44) –
«وقيل» (أي: وقال الله للأرض بعدما تناهَى أمرُه في هلاك قوم نوح غرقا)؛
«يا أرض ابلعي ماءك» (أي: تشرَّبي، نحو: بَلِعَ فلان كذا يَبْلَعُه، إذا ازدَردَه)؛
«ويا سماء أقلعي» (أي: أقلعي عن المطر، وأمسكي عنه كذلك)؛
«وغيض الماء» (أي: إذا ذهبت به الأرض ونَشِفته كليا أو جزئيا)؛
«وقضي الأمر» (أي: قُضِي أمر الله، فمضى بهلاك قوم نوح المعنيين)؛
«واستوت على الجوديّ» (أي: أرست (الفلك)، على الجودي، وهو جبل بناحية من الشام أو العراق أو الجزيرة)؛
«وقيل بعدًا للقوم الظالمين» (أي: قال الله «أبعد الله القوم الظالمين الذين كفروا بالله من قوم نوح عصرئذٍ»).
شكرًا أخي صبحي حديدي. يطلق إسم زيت حلو على زيت الزيتون لدينا في سوريا (اللاذقية) وكنت استغرب هذه التسمية ولكن بعد أن جربت الزيت الإيطالي والإسباني بحموضتها (طعمها حاد) عرفت السبب. أما الزعتر مع زيت الزيتون فهي قصة عشق أبدية فيما أعتقد. وشكرًا للأخت أصال أبسال على نعلوماتها القيّمة، فلم أكن أعرف ذلك أيضًا حيث أن الحمامة مع غصن ابزيتون منتشرة بشكل واسع. لكن القليل يعرفون مصدر ذلك.