في السياسة هناك نوعان من الاعداء، عدو مؤكد وعدو محتمل، ولان العلاقات بين الاطراف السياسية العراقية قائمة على اساس ان كل واحد يمثل دولة خارجية وزعامة طائفية او اثنية، فان كل طرف لديه، في الساحة السياسية الداخلية، اعداء مؤكدون واخرون محتملون، مما يعزز سياسة الكيد والاستنفار الدائم والضربات الاستباقية ضد الطرف الاخر، التي غالبا ما تكون قائمة على اساس الشبهة وسوء النية. وقد دفعت هذه السياسة الى وضع البلد بجميع التحديات التي يواجهها في ادنى سلم الاولويات، في التوجهات الانية والمستقبلية لمن يتولون قيادته، وبات الشعب يواجه حالة طوارئ مستديمة، اشبه بحالة مواجهة عدوان خارجي مستمر، بعد ان وضعوا كل موارد البلد الاقتصادية والبشرية وجهد الدولة العسكري والامني في الحرب الدائرة بينهم، بل حتى الشعب جرى تقسيمه على اساس معارضة وموالاة لهذا الطرف على حساب الاخر. فبات من الواضح التمييز في التعامل وفي اتخاذ الاجراءات في هذه المحافظة عن تلك ومع هذه الطائفة وتلك. وفي ظل هذا الفهم الخاطئ والتصورات المريضة التي تنم عن جهل قاتل في السياسة وشؤون ادارة الدولة، يمكن وضع الزيارة التي قام بها مؤخرا رئيس وزراء العراق الى محافظة اربيل لعقد اجتماع مجلس الوزراء، فلقد اثبت على مدى ولايتين ان سياسته مع الاطراف الاخرى قائمة على اساس الانفراد بهم، كل في وقته وزمانه، وقد يكون هذا الانفراد لتشكيل تحالفات مضادة للاخرين، او ضربات استباقية تطيح بالاخرين بتهمة الارهاب والملفات المزعومة. كما انه لم يتردد اطلاقا عن ممارسة سياسة التشجيع على الانشقاق عن صفوف الكيانات السياسية الاخرى، سواء كانت محسوبة لديه في خانة الاعداء الدائميين او الحلفاء الذين في عرفه اعداء محتملين، مستخدما في هذا المجال امكانات السلطة وروافدها.
ان نوري المالكي يواجه اليوم وضعا قلقا، سواء على صعيد نتائج الانتخابات المحلية الاخيرة، او الوضع السياسي والامني. فالانتخابات المحلية لمجالس المحافظات افقدته السيطرة عليها فذهبت لصالح المجلس الاعلى والتيار الصدري، على الرغم من انه دخل الانتخابات متحالفا مع صقور البيت الشيعي، الذين يؤيدون اساليبه البوليسية في التعامل مع الشعب والساسة. كما ان الوضع السياسي لازال صادما له، وهو الذي كان يرى في نفسه انه القائد المنقذ من الضلال، فالمحافظات الست لازالت منتفضة ضده، رغم كل وسائل القتل والقمع التي مارسها ضدهم، والصراع بينه وبين رئيس السلطة التشريعية مازال مستمرا، رغم الفاصل الذي تخلله مشهد العناق. اما الوضع الامني فكان الاشد احباطا وتحديا له خلال كل فترة حكمه، حيث تتواصل التفجيرات بالسيارات المفخخة بشكل مركز في العاصمة بغداد، وتنتقل ارتداداتها الى المحافظات، في ظل عجز تام لكل اجهزة الدولة، على الرغم من كثرة الاطواق الامنية وحشد الجهد المليشياوي ومنع التجوال الليلي المستمر منذ عشر سنوات. وامام كل هذا الوضع المرتبك كان لابد له من حركة يعيد بها خلط الاوراق، ويضفي على المشهد ما يعتقده براعة سياسية تحرف زاوية نظر الاخرين عما يواجهه على ارض الواقع، فبادر بنقل اجتماعات مجلس الوزراء الى اربيل، ليوفر لنفسه فرصة لقاء قمة هرم الزعامة الكردية، كي لا يبدو انه تنازُل من قبله عندما قال سابقا بانه اذا اراد الاكراد التفاوض مع الحكومة المركزية فعليهم التفاوض في بغداد. صحيح ان الاكراد قدموا الى بغداد للتفاوض قبل زيارته الى اربيل بوفد تزعمه رئيس وزرائهم، لكن مسعود بارزاني بما يمثله من زعامة تملك القوة المادية والمعنوية لم يأت اليه، كما ان قدومهم لم يكن مبادرة منهم او تبرعا يبتغون منه رضى المالكي، بل كان بعد عدة رسائل استرحام واستلطاف وتذكير بحسنات وقدسية التحالف الشيعي الكردي، سطرها زعيم تحالف الاسلام السياسي الشيعي ابراهيم الجعفري، ووضع فيها ضمانات تنفيذ كل ما يطلبون. اذن هل حققت زيارة المالكي الى اربيل اهدافها؟
وما هي الاهداف التي ارادها هو من تلك الزيارة؟ وهل ضَمِن الاكراد مطاليبهم فيها؟ لا شك ان الاكراد يتبعون المثل الانكليزي الذي يقول ‘خُذ وطالب’، لذلك رأينا ما حصلوا عليه، لكننا لا نزال نسمع منهم ما يريدون، وفي ظل الوضع الراهن في البلاد لا يمكن لاي رئيس سلطة تنفيذية في العراق ان يتجاهل مطاليبهم، لانهم قادرون على نقل تلك المطاليب الى اهداف يتبناها هذا الطرف السياسي او ذاك من شركاء العملية السياسية ويحصل على دعمهم في الصراع الدائر على السلطة. وعلى الرغم من ان لديهم قناعة راسخة بان المالكي لديه الاستعداد التام كي ينقلب على اي اتفاق معهم تم التوقيع عليه، لكنهم ايضا مقتنعين تماما بان تحالفاتهم الدولية والاقليمية والمحلية قادرة على هز كرسيه متى ما شاءوا، فالمنطقة انقسمت الى خندقين، سني وشيعي، واذا كان الاتراك تزعموا الفصيل السني مقابل ايران، فان الاكراد يعتقدون بانهم قادرون بما يملكون من حرية التصرف في وضعهم الجغرافي الخاص، ان يصبحوا ملجأ للزعامة السياسية السنية في العراق، وهذا الظرف كما انه يخيف شيعة الاسلام السياسي في الداخل العراقي، فانه يخيف ايران اكثر، فيضطرها الى ممارسة الضغط على حلفائها كي يرعووا.
وعليه فان ما يريده الاكراد سيحصلون عليه ان صدق المالكي معهم ام مارس التلاعب. اما عن اهداف زيارته فقد كان اهمها بالنسبة اليه سحب البساط من تحت بعض اطراف البيت السياسي الشيعي، التي تقدمت عليه في الانتخابات المحلية، كي يقطع عليهم التخندق مجددا مع الاكراد ضده، خاصة في ظل الوضع الضعيف الذي يبدو فيه حاليا، فالوضع السياسي في البلاد اثبت فشله وعجزه، كما ان غياب جلال طالباني عن المسرح افقده حليفا مهما في العرين الكردي يشترك معه في الانصياع للإملاءات الايرانية، فهو الذي انقذه من الضربة القاضية، عندما كاد بارزاني ومقتدى الصدر واياد علاوي ان يسحبوا الثقة منه، وبالتالي لابد من تقديم الوعود والتنازلات الى الاكراد كي يستمر في السلطة. اما الهدف الاخر فهو سحب حليف غير معلن بشكل صريح مع المنتفضين في المحافظات الست، حيث استنجد بعضهم بمسعود بارزاني لتحقيق مطالبهم، كما لم يخف الاكراد دعمهم لنيل الحقوق واستنكارهم قتل المنتفضين من قبل الجيش، بل استغلوا الوضع بعد جريمة الحويجة لنشر البيشمركة في بعض المناطق في كركوك وتعزيز سلطاتهم فيها. اما الهدف الثالث من الزيارة فهو استمرار الحصول على الدعم الامريكي والايراني له من خلال اظهار انه قادر على اللعب على رقعة شطرنج العملية السياسية، حتى لو تأزم الوضع السياسي العام.
ان المالكي ينظر الى المعادلة السياسية على انها مثلث باضلاع ثلاثة، ضلع كردي واخر شيعي وثالث سني، فيتحرك للتلاعب بقياسات هذا الضلع او ذاك على الخارطة السياسية بطريقة انتهازية، كي يضرب اي ضلع يجد فيه تهديدا له، وبما ان التحدي الاكبر له هي تظاهرات الضلع ‘السني’ فلا مانع من اعطاء الضلع ‘الكردي’ بضعة سنتيمترات اكثر من بقية الاضلاع على الرقعة السياسية، لتهدئة جبهتهم ضده والوقوف على الحياد بينه وبين المنتفضين، كما انها لعبة لاقناع حلفائه في البيت الشيعي بانه لا زال رجل المرحلة، على الرغم من تراجعه الانتخابي. لكن التقييم الحقيقي للزيارة يبقى بعيدا عن تحقيق اهدافها المعلنة على الرغم من التصريحات المتفائلة بينه وبين الاكراد، لان الكلام عن ان جميع الخلافات يمكن ان تحل بالدستور هو ضرب من الخيال، لان الجميع يعرف ان كل طرف، سواء الحكومة او الاكراد لديه فهم خاص للدستور، وكل بند فيه يحتمل تفسيرين او اكثر تبعا للمصالح السياسية الطائفية والحزبية. فما هو التفسير الذي ستُحل في ضوئه كل الاشكاليات التي تم بحثها في الزيارة، وهي تفعيل المادة 140، ورواتب البيشمركة، وحدود الاقليم، والنفط؟ ألم يكن حتى مفهوم ‘العراق جمهورية اتحادية فدرالية’ الذي تحدث عنه المالكي اثناء زيارته هو ايضا مُختلفٌ على تفسيره؟ اذن فالزيارة مرتبط نجاحها في حالة واحدة، وهي انه وقّعَ على كل مطاليب الاكراد في 45 دقيقة من الاجتماع المغلق الذي جمعه مع بارزاني بعد وضع الدستور تحت المنضدة، عندها سيكون عناقه مع مسعود بارزاني ليس لقطة اخرى في مشهد سينمائي خيالي بدأ بعناق مع اسامة النجيفي.
‘ باحث سياسي عراقي