الكل يبكي في الحرب بمقلتيه، والمقلة في الحروب تلبس روح صاحبها، وصاحبها في الحروب، يخلع مقلتيه، ليرى الحرب بصولفيج روحه. أما بالنسبة للموسيقار السوري كنان العظمة، فراح يبكي الحرب في سوريا بمقلتي الكلارينت التي لم تخمن من ثلاثة قرون حين تم اختراعها أن تكون حنجرة لأصوات فقدت حناجرها.
كنان العظمة، مسك الكلارينت وراح يبكي على مرآى الأحياء، وشبه الأحياء.. على مسامع الأموات، وشبه الأموات.. على خطوة من حلم مستحيل، وخطوات من دمار، تجرأ أن يحط رحاله في وطن مخترقاً كل شائعات «الطير الشارد لا يمر من سماء سوريا إلا بإذن».
بعيداً عن سوريا، أطل كنان بهالة الموسيقى على جمهور أتاه بهالة التوق إلى وطنه. الأوطان أثناء الرحيل، تحّملنا عناقيدها بوجع الأم وهي تودع أبناءها دون أمل. لكن حين ينبت العنقود، سيعرف كل من يراه أن أوطاننا حيّة فينا ولو بقي من العنقود حبة واحدة. وفي موسيقى كنان العظمة، سمع الجمهور أنين العنقود على مدار اثني عشر عاماً يبكي سقوط حباته، أطفاله، أحلامه، تاريخه، قلاعه، حصونه، شبابه، أرحام نسائه، عزة رجاله، وقائمة الضحايا أطول مما يمكن للورق احتواؤه…
في موسيقى كنان العظمة، ناح الكلارينت على شعب نال سخط الأرض بدل نيل شفقتها، واستعذب العالم ذبحه، بدل تضميد جراحه، وتفرقت صفوفه بدل تكاتفها، وبات بحكم المعدم من الفقر والحيلة والرجاء والحلم والإيمان بـ»بكرا». أما الأصعب من كل تلك الأوجاع، فهو حكم الموت الذي أطلق عليه، سواء بقي في أرضه، أو رحل عنها. لم يتخل كنان عن ابتسامته حين كان يحاكي جمهوره، كذلك، لم يتمكن من إخفاء بكاء الكلارينت حين عزف لجمهوره… فمن قال إن أصحاب المواجع لا يبكون! ولعل أحلى ما في تلك الهالة أو الحالة أو اللقاء، كانت الروايات الصغيرة التي يخبرنا بها عن المناسبة التي استوحى منها مقطوعاته الموسيقية. لم تمر رواية دون استحضار اسمها، ولم يخبرنا حكاية بمنأى عن ذكرها، تلك العتيقة الغارسة جذرها في داخلنا، رغم استهداف أغصانها مرة بالنار، ومرة بالسلاح الكيميائي، ومرة بالقنابل، ومرات كثيرة بحرب الأغصان مع بعضها، في عز تهاويها وسقوطها وتلاشيها للأبد.
موسيقى كنان العظمة لم تبحث عن قنديل في العتمة، أو خشبة على مسرح، أو نافذة في جدار، أو محطة في راديو قديم، إلا لأن لديها ما تقوله. أما الذي أرادت أن تقوله، فهو رسالة حب لوطن لم يغير الخراب موقعه في دواخلنا. وأما لمن أرادت أن تهدي ما تقوله، فهو لكل صرخة وجع سقطت في لحظة خروجها، ولشجرة المشمش في جسرين، التي لا يزال ترابها عالقا في أصابعه وهي تعزف على الكلارينت نوستالجيا وطن.
كاتبة من سوريا
عبرت اذا الموسيقى بكل صدق عن حب هذا الوطن المجروح وابدع هذا الموسيقي صاحب القلب المحترق في ترجمة احاسيسه وحزنه إلى سمفونية عشق الوطن… وابدع قلم الكاتبة سهى هشام الصوفي كعادتها في وصف هذه المشاعر الموسيقية التي نقلها هذا الموسيقي ابن سورية البار… يا لسحر المعاني التي نقرأها بين ثنايا كلمات الكاتبة سهى صاحبة الخيال الواسع… شكرا على هذا المقال الرائع
ما أجمل هذه النغمات و ما اشجنها في مقال الكاتبة..شكرا لك سهى الصوفي و شكرا لتعريفنا بالموسيقار الرائع كنان العظمة