أغلب الظن أن مجرد التفكير في الفيلسوف الألماني نيتشه يقود المتأمل إلى التفكير في الشعر وقدرته على مجاراة التأمل الفلسفي، عبر صبغ الأفكار بخيالات واستيهامات الأليغوريا الشعرية، بما فيها من كفايات، تمنح المتأمل القدرة على النفاذ إلى صميم التجربة الوجودية للإنسان، بمواربة ومخاتلة فنيتين رائقتين.
الشعر هذا الكائن المارد الذي حصره الدوكسا الجمالي في معايير من اختلاق العقل وصرامته، بما يتنافى مع طبيعة الشعر. وحدهم الفلاسفة الشعراء، والشعراء الفلاسفة من أخذوا الشعر إلى أراضيه ومضائقه بتعبير أبي نواس. من هؤلاء الفلاسفة، نذكر الفيلسوف المشار إليه في البداية، أقصد فريديريك نيتشه، الذي استطاع أن يجسد بالفعل التقاطع الحاصل بين الشعر والفلسفة، من خلال تعبيره عن أفكاره الفلسفية شعرا. لقد ظل يؤمن، في حياته كلها، بأن النثر الجيد لا يتحقق إلا من خلال رؤية شعرية، وأن الشعر ما هو إلا نوع من الجنون. فكيف استطاع هذا الرجل أن يجعل من تجربته الفلسفية تجربة شعرية محضة.. تجربة بشعريتها المخصوصة الذي يتقاطع فيها الفلسفي مع الشعري؛ السؤال مع الأليغوريا، التأمل الفسيح مع الشذرة؟
كيف حرض الكتابة الشعرية حتى تتوق إلى الحكمة، على الرغم من نعت الأولى بالكذب والثانية بالصدق، أليس هو القائل على لسان زرادشت بأن الشعر، بما فيه من كذب، هو الطريق المفضي للحكمة ما دام العلم لا يقول كل شيء؟
أولا ـ نيتشه فيلسوفا للعدمية
يُعتبر نيتشه المؤسس الفعلي للفلسفة العدمية في العصر الحديث. هذه الفلسفة التي تؤشر إلى أن القيم ومنظومة الأخلاق مجرد وهم طوّح بالإنسان بعيدا عن حقه في حياة غير منقوصة، زمنا طويلا، كما ورد على لسان الرجل المجنون في كتاب «العلم المرح» وهو يردد قائلا « أين الإله؟ لقد مات الإله». لا شيء إذن بعد هذا، عند نيتشه سوى العدم والفوضى. والحق إن فكرة قتل الإله عنده، تقابلها فكرة أخرى تجعل الإنسان يتحاشى هذه العدمية السلبية، والفوضى التي قد تعود بالإنسان إلى الوراء، يتعلق الأمر بفكرة «الإنسان الخارق». فماذا يعني نيتشه بهذا الإنسان؟
في كتابه «هكذا تكلم زرادشت» يحدد معنى هذه الفكرة من خلال قوله إن الإنسان الخارق هو القادر على أن يخلق قيمه الخاصة، وأن يفرضها بالقوة على الحياة. وبذلك يستطيع قهر هذه العبثية والعدمية، التي قهرت بدورها الإنسان قرونا طويلة.
ليس من شك إذن، أن فكرة كهذه، ستقود نيتشه، مرة أخرى، إلى مرتكز آخر، يُنظر إليه على أنه من ضمن أهم أفكار الفلسفة النتشوية، ألا وهي فكرة «إرادة القوة». والقوة، ها هنا، لا تعني البتة الهيمنة والسيطرة كما يتوهم البعض، أو كما استُثمرت من قبل بعض القوى أو الأيديولوجيات الفاشية بغرض الاستحواذ والإقصاء، بمبررات نبيلة وحسنة تارة، وبدعوى الأحقية تارة أخرى؛ بل إن القوة هي مبدأ أساس يحدد جوهر الحياة، وجوهر الحقيقة. إنها قوة غريزية تسعى جاهدة وأبدا إلى إثبات الذات وضمان استمراريتها، غير عابئة بما قد يعترض طريقها من قيم العبيد والضعفاء (القيم السيئة) لأن «إرادة القوة» هي القيمة الوحيدة التي ينبغي الإيمان بها والدفاع عنها. يقول فيلسوف العدمية في قصيدة له بعنوان «أمثال ولذعات»: «الذي لا يعرف كيف يضمّن الأشياء إرادته، يرد على الأقل إعطاءها معنى: وهو ما يجعله يعتقد أن إرادة من قبل موجودة فيها «(مقدمة «ديوان نيتشه» ترجمة محمد بن صالح، منشورات الجمل، الطبعة الثانية، 2009).
الإرادة إذن، هي السبيل الأوحد إلى الحقيقة، لأن ثمة فارقا كبيرا بين الملكات العقلية والإرادة. الأولى تتعب ومحكومة بالكسل والشيخوخة، على نقيض الثانية (الإرادة) التي لا تعرف الراحة ولا الشيخوخة. لقد قام نيتشه، فعلا، بقلب القيم ونظمها، وذلك بنقلها من قيم الضعف/الضعفاء والاستياء التي تقوم على مبدأ الثنائيات: الخير والشر، الروح والجسد (المسيحية مثلا) إلى قيم القوة/ الأقوياء التي تسعى أبدا إلى إثبات الذات، وإلى النمو والازدهار.. قيم الحياة في أبعد ممكناتها.
يُعتبر نيتشه المؤسس الفعلي للفلسفة العدمية في العصر الحديث. هذه الفلسفة التي تؤشر إلى أن القيم ومنظومة الأخلاق مجرد وهم طوّح بالإنسان بعيدا عن حقه في حياة غير منقوصة، زمنا طويلا، كما ورد على لسان الرجل المجنون في كتاب «العلم المرح» وهو يردد قائلا « أين الإله؟ لقد مات الإله».
ثانيا – نيتشه شاعرا
بداية وجبت الإشارة إلى أن نيتشه، منذ كتابه الأول «ولادة المأساة» كان يرى أن الوجود والعالم ليسا سوى ظاهرتين جماليتين. فالعالم «يشرع لذاته بذاته، لا كإبداع، ولا من خلال آفاق غائية تاريخية أو أخلاقية، لكن بحسب معايير جمالية خالصة يتقدم الكاتب لإبراز دلالتها ونتائجها» (مقدمة «ديوان نيتشه») هذا الاعتقاد جعل نيتشه ينحاز للشعر، قصيده ومنثوره، حتى وهو في أقصى حالات تفكيره وتفلسفه.
وعملا بما جاء في مقدمة «ديوان نيتشه» لمحمد بن صالح، وما ضمّنها من خلاصات، فإن الحياة الشعرية لهذا الشاعر/الفيلسوف، مرت بثلاث مراحل جمعت بين القصيدة، والنثر الشعري، والشذرة الفلسفية التي أحدثت ثورة كبيرة وعنيفة في مملكة الشعر حينئذ. ثورة قطعت مع عادات الشعر التقليدي، وقلبت نظمه.
في المرحلة الأولى، وقد وسمها كاتب المقدمة بمرحلة الشباب، جاءت القصائد «تقليدية في شكلها، بعضها على شيء من المغالاة البلاغية والعاطفية، ومجملها يرزح تحت وقع الكآبة المثقلة حتى اللجاجة» (المقدمة). وتمثيلا لا حصرا لهذه المرحلة، نأخذ هذا المثال: على الربوة العالية/ ملتفا بمعطف الظلام أقف/ من هذي الأعالي الموحشة/ إلى موطن تغطى بالزهور/ نظرتي تهوي، أرى نسرا يحلق/ بجرأة الفتوة يندفع/ ملاحقا أشعة مذهبة ويصعد/ ويوغل في الأتون الأبدي. (الديوان)
المرحلة الثانية، اتسمت بالنضج، وقد طغى عليها « النثر المزخرف، دون أن يمس بإيقاعها المسهب أو بعمقها الدرامي، وإلى جانب ذلك، جاءت على قطيعة مع القصيدة التقليدية، منحاز إلى فن السخرية المرة، أو ما يسميها بالألعاب اللاذعة» (المقدمة). ومن ذلك قوله في قصيدة (الشاعر عذاب المبدع): أجوف، كهفيّ، بخفقان جنح الليل ممتلئ/ بالكآبات محاط وبالأغاني. (الديوان).
أما المرحلة الثالثة والأخيرة، فهي مرحلة الشذرات. وقد جاءت في عمومها موجزة جدا، بسبب الاقتصاد المفرط في اللغة، وهي « تبرز كأفكار سريعة مكثفة، أو كصور جزئية أو كونية وضاءة في بساطتها، كأنها اللُّمعُ، ضمن توسيمات متعجلة، أحيانا لاهثة، على نقيض الغزارة والتنامي البطيء» ( المقدمة). ومن هذه المرحلة نأخذ الشذرتين التاليتين من نص شعري طويل مبني على نظام الشذرات، وهو يحمل عنوان «عن الماء مديح». يقول نيتشه: هؤلاء الشعراء/عندهم خيول في عفة تصهل. (الديوان). كما يقول في النص ذاته: أيتها الأيام الوحيدة/عليك أن تتقدمي خطوة أكثر جرأة (الديوان).
في خاتمة المطاف، نخلص مثلما خلص جل من انشغل بفلسفة هذا الرجل، واشتغل عليها، بأن نيتشه كفيلسوف، كانت له الجرأة والشجاعة والقدرة الكافية على أن يعيد الشعر إلى مجاله الطبيعي، مثلما كان الأمر عليه مع فلاسفة ما قبل السقراطية، حيث عاش هذا الكائن المارد أقوى لحظات التناغم مع الفلسفة، منتصرا بذلك للإله ديونيزوس بوصفه شاعرا/فيلسوفا، ونكاية بأبولون وحراس العقل بعده.
شاعر وناقد مغربي
محبتي الشعرية
نبادلكم المحبة نفسها سي جميل