شاهدت فيلم «نيرودا» فور مجيئه لقاعة العرض السينمائي في المركز الثقافي الفرنسي في لندن خريف عام 2016، بعد أشهر من عرضه في مهرجان كان. ورغم حرصي على مشاهدة سيرة الشاعر التشيلي الفذ، الفائز بجائزة نوبل عام 1971، نابضة مختلجة على الشاشة الفضية، فإني لم أعجب بالفيلم. صحيح أنه فيلم أمريكي لاتيني محض إنتاجا وتمثيلا وإخراجا، إلا أن نقطة الضعف الكبرى في الفيلم في رأيي، باعتباري مشاهدا لا ناقدا متخصصا، أن الفيلم لم يلتزم الدقة التاريخية. ولا أقصد أن كاتب السيناريو المؤلف المسرحي التشيلي غيللرمو كالدرون تعمد تحريف الوقائع، وإنما هو تناول الفترة الهامة في تاريخ تشيلي وسيرة نيرودا من عام 1946 حتى 1973 ببالغ التصرف، مازجا التوثيق بالتخييل.
ولا شك أن التخييل هو أحد أهم مقومات الرواية التاريخية، التي هي من أطرف الأجناس الأدبية، بل إنها الجنس الأدبي الأثير عندي كلما أتيح لي الوقت لقراءة رواية أو بعض رواية. لكني أرى أن التخييل في الرواية التاريخية مرغوب، بل مطلوب، بقدر ما تكون ثمة ثغرات في المعلومات الموثقة عن السيرة أو الفترة التاريخية المتناولة. أما إذا كانت المعرفة التاريخية بالموضوع شبه مكتملة (علما أن الحسم أو الجزم في التاريخ شبه مستحيل، وأن المعرفة التاريخية تبقى مفتوحة دوما لمزيد من التوثيق والتدقيق، أي أنها لا تكتمل أبدا) فلماذا الإضافة والزيادة في الأحداث الأساسية؟ وفيم تشويش الصورة التاريخية في أذهان الجمهور؟ يذكرني هذا السؤال بما أتاه المبدع يوسف شاهين عندما أقدم، على غير عادته، على إنتاج فيلم سيء «لا رأس له ولا أساس» أقصد فيلمه عن ابن رشد الذي كان مليئا بالإسقاطات الشخصية والأيديولوجية الآنية، أي التي أوحى بها الظرف السياسي والاجتماعي، فأتى خلوا من أي إنارة أو إفادة.
رغم أن الرواية الرسمية تقول إن نيرودا توفي بالسرطان، فقد بقيت الشبهات تحوم حول ملابسات وفاته
والدليل على أن المشكلة ليست في التخييل في حد ذاته أني وجدت فيلم «نيرودا» (2016) مملا رغم مزجه كثيرا من الواقع بشيء من الخيال، أما فيلم «ساعي البريد» (1994) فقد أمتعني، بل فتنني، رغم أنه مقتبس من رواية كل أحداثها خيالية: رواية أنطونيو سكارميتو «الصبر المضطرم» التي تصور نيرودا منفيّا في جزيرة صغيرة قرب نابولي يعيش أهلها على صيد السمك، وليس فيها من مظاهر الحياة العصرية شيء باستثناء الدراجة التي يمتطيها ساعي البريد كل يوم ليسلم نيرودا الرسائل الكثيرة التي كانت تأتيه من الأدباء والقراء. وقد أبدع الفرنسي فيليب نواريه، كدأبه في كل ما ينجز، في دور نيرودا بينما تألق الإيطالي ماسيمو ترويزي في دور الساعي. ومن الأحداث المثيرة التي رافقت الفيلم أن ترويزي قضى نحبه غداة انتهاء التصوير، فقد كان عليلا، ولكنه أصر على تأجيل العملية الجراحية حتى انتهاء الفيلم.
ورغم أن الرواية الرسمية تقول إن نيرودا توفي بالسرطان، فقد بقيت الشبهات تحوم حول ملابسات وفاته، لا بسبب نضاله السياسي اليساري الطويل فحسب (فقد كان عضوا في الحزب الشيوعي، ونائبا في مجلس الشيوخ من 1945 إلى 1950، ثم سفيرا في باريس من 1971 إلى 1973) بل ولأنه توفي بعد أسبوعين فقط من انقلاب الجنرال بينوشي على الرئيس الاشتراكي المنتخب شرعيا سلفادور أللندي في 11 سبتمبر/ايلول 1973، وقبل يوم واحد من سفره إلى المكسيك، حيث كان يعتزم حشد التأييد الدولي لإحباط الانقلاب. ولهذا شكلت عام 2011 لجنة للتحقيق في أسباب وفاة نيرودا. والجديد أن اللجنة أعلنت هذا الشهر أن الفحوص المخبرية أثبتت وجود مادة سامة في بقايا عظام الشاعر. فهل مات نيرودا مسموما؟ ليس عند اللجنة جواب، بل اكتفت بالقول إن «البكتيريا السامة كانت موجودة في بدن نيرودا عند موته، لكننا لا نعلم لماذا. كل ما نعرفه أن من المفترض ألا توجد». إلا أن محاميي عائلة نيرودا قالوا إنه سُمم بحقنة. وأكد سائقه مانويل أرايا أنه حقن في البطن وأنه هاتف زوجته ماتيلد أوروتيا يوم 23 سبتمبر/أيلول قائلا إنهم حقنوه في عيادة سانتا ماريا في سنتياغو وإن بداخله مثل النار من شدة الألم. ويروي السائق، وهو أيضا عضو في الحزب الشيوعي، أن نيرودا قال له: أنا ذاهب إلى المكسيك يا رفيق، حيث سأطلب من العالم عونا على إسقاط بينوشي، وما هي إلا ثلاثة أشهر حتى أسقطه.
كاتب تونسي
و انت عجبك الفيلم صلاح الدين الأيوبي للمخرج يوسف شاهين الذي كان كله تلفيق و مغالطات؟
الجنرال بينوشي ظل في السلطة عشر سنوات فكيف أسقطه نيرودا بعد ثلاثة أشهر؟