وداعاً نيلسون مانديلا، وداعاً ‘ماديبا’ رمز المظلومين حيثما كانوا، في أفريقيا أو في أي مكان أخر. وداعاً يا من كان لا يشعر بأنه حر طالما أن هنالك إنسانا يشعر باهانة، وداعاً يا من رفض دوماً رغد الحياة طالما شعبه البائس يعيش تحت ذل أحفاد القراصنة من البيض الغرباء القادمين من بريطانيا، كندا، هولندا وأستراليا ليحتلوا البلاد بدون أدنى حق، والزج بسكانها الأصليين سجناء في ‘غيتو وكانتونات’. هؤلاء لم يستكثروا عليهم فقط حق البقاء فوق الأرض الجرداء، وإنما حرموهم وفرة الماء وحق التمعن في أفاق السماء. مع ذلك، ورغم أربعة قرون من التمييز والاستحقار لم تحطم عزيمتهم، كما لم تكن كافية لنقل رمزهم الجبار بين ثلاثة سجون مختلفة لكسر إرادته وارداه أمته العصماء.
بقدر ما ابتهج الكثير بنيلك الحرية (1990) ها هو الحزن يخيم من جديد وها قد جاء ميعاد نسج الرثاء على الفراق. اليوم وسوف يغيب جسدك، فلتعلم أن روحك الثائرة، رمز حريتك وحرية من سار على دربك، ستبقى طيف خيال يسطع دائماً فوق الأدغال، البحيرات والوديان، التي تعم جنوب أفريقيا، ناميبيا، نيجيريا، موزمبيق والصومال. سوف تبقى كنيتك الزنجية ‘العظيم المبجل’ مدبوغة على جلود التماسيح، الأسود والفيلة المتنقلة بين تنزانيا، ليبيريا، السنغال وباقي القارة السوداء. وسوف تستحضر عزيمتك جيلاً بعد جيل حتى يقلع آخر جدار رفع ظلماً وبهتاناً للفصل بين أرواح البشر. وسيبقى رقمك سجنك ‘466/64’ رمزا مميزا ضد كافة أنواع الكراهية العمياء، التي جاء بها أهل الجزر النائية تحت أكذوبة تحرير رقاب العباد. حقاً انها اكاذيب الرجل الأبيض ذي لسان الثعبان. هؤلاء لم يفعلوا بتاتاً ما وعدوا، بل نزحوا بهدف استعباد أهل البلاد، سلب إرادتهم وما يملكون من خيرات.
بمكوثك يا ابن قرية ‘مفيزو’ حبيساً لسبعة وعشرين عاماً، صامداً ومتمسكاً بحقوق شعبك، نلت شرف أنك من سجنت السجان. لقد لقنتهم وغيرهم درساً بأن الحرية تنال بثبات العزيمة، ومع سبق الإصرار. ما جعلك مميزا هو أنك رفضت المساومة على حساب عزة وكبرياء السواد. كرجل قانون كان كل همك استعادة الكرامة المسلوبة والحرية المفقودة. لقد فضحت بصمودك معاقل الطغيان وكشفت عورة المنافق الأبيض الدجال، الذي احتقر النساء قبل الرجال، وتاجر بالبشر وبالأحلام.
لقد سجنت وأنت فى ريعان الشباب (1964)، فقط لأنك كرست عمرك تهاجمهم حيناً بالكلمة وحيناً شاهراً السلاح. ما أقلقهم حقاً هو مطالبتك الغاء التمييز بين بني البشر والتعامل بين العباد حسب المساواة. خطرك الأكبر يا حاصل على جائزة السلام (1993) تجسد فى رغبتك تغيير المعادلة، بجعل أصحاب العيون الزرقاء تحت حكم الزنوج النحاف ذوي الرقاب الطوال. مطلب كهذا هو تحد لهيمنة البيض ودحر بقايا جحافل الاستعمار. هؤلاء لم يتخيلوا يوماً أن ‘العبد’ يملك حقاً فى العدالة، نصيبا من الرخاء أو في أن ينال الاستقلال.
لم يكن سجن ‘روبين إيزلاند’ بالنسبة لك سوى منتجع محاط بسياج يطوف من حوله ساسة البلاد، حيناً من أجل تطويعك وحيناً من أجل أن توافق بشكل ما على كل ما هو مرفوض فى كافة الملل والأديان. من خلف القضبان تمكنت من وضع الأسس الحديثة ‘للمجلس القومي الأفريقي’ الذي كان قد غشاه الغبار (1912). في نفس الوقت تمكنت من تحديد أسس ‘حملة التمرد المدني’ (1952) وبنود ‘رسالة الحرية’ (1955) في مكافحة العنصرية وطمر معاقل نظام الأبرتهايد. أمام هذا الكم الهائل من العطاء لم تكن مستغربة أية محاولة فاشلة لاغتيالك وأنت خلف القضبان (1967). أمثالك غير مرغوب فيهم أحرارا، أحياء، سجناء ولا حتى أمواتا. لذا لا تصدق ما سوف يقال يوم الميعاد، مجرد أكاذيب وتنكيس شكلي للأعلام.
تذكر، بأنه رغم كل الاحتجاجات لم يفلح قادة العالم المتحضر فى إخراجك من المعتقلات، وأنهم كانوا خير راع للسجان. لولا ثباتك وعزيمة الكثير من الشرفاء لما أطلق سراحك من بين القضبان (شباط/فبراير 1999). خرجت من زنزانتك وقبضتك مغلولة كإشارة قوة وانتصار، ويدك ممتدة، تعانق السحاب. رغم المأساة وكبر حجم المعاناة، تواضعت وقبلت التعايش معهم بسلام. سامحت، صافحت وتصالحت، لأنك شعرت بأن القوة تكمن في دوام الاصرار. طويت بيدك صفحات الفصل والتمييز بهدف أن يعم الرخاء والسلام.
خلال رئاستك البلاد (1994-1999) مدحك الجميع لكونك عملت خلال تلك الفترة على دعم أواصر التعايش، المحبة والمؤاخاة بين أبناء البلاد. وقد أغدقوا عليك الكثير من الجوائز، أكثر مما يزيد عن مئتين، من مختلف المؤسسات، المعاهد والجامعات، من أجل تبرئة ذمتهم وحتى لا تستمر في جلد ضمائرهم ليل نهار. زيادة على ذلك، رفعت من قائمة الارهاب (2008) وأقاموا ببلادك المونديال (2013). أي أغراء أكبر من هذا أو ذاك. مع ذلك، خيبت ظنهم حين تحالفت مع من تبقى من العجائز الثوار، أمثال كاسترو وعرفات. ساندتهم لأنك كنت على يقين بأن شعوبهم مثل شعبك، يناضلون ضد نوع آخر من أنواع الاستعباد. لم يكن بإمكان الاسياد فعل شيء، فقد فات الميعاد. وماذا بمقدرتهم أن يفعلوا مع رجل عاش شبابه وأفنى عمره رمز نضال ضد نظام لم تعرف له البشرية مثيلا في أي مكان وزمان.
وداعاً مانديلا، وداعاً بعد خمسة وتسعين عاماً عملت خلالها فقط من أجل خير وكبرياء الإنسان، وهنيئاً لك بأنك ولدت عبداً (1918) لان ذلك مكنك دائماً من العيش حراً كي تخلد بين العظماء.
‘ كاتب فلسطيني – إسبانيا