لندن- “القدس العربي”:
تحت عنوان “المأزق الهندي” علّقت صحيفة “نيويورك تايمز”، في افتتاحيتها، على زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي أضفى عليه الرئيس جو بايدن حفاوة منقطعة النظير، في محاولة لحرف الهند إلى التنافس الأمريكي- الصيني، وإبعادها عن روسيا والاعتماد عسكرياً عليها.
وقالت: “أحياناً قدمت المثالية والبراغماتية مزاعم متنافسة بشأن السياسة الخارجية الأمريكية، وقادت إلى خيارات صعبة أنتجت الخيبة. كانت هناك لحظة في تسعينات القرن الماضي، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، من شأنها تعبيد الطريق أمام نظام سياسي واقتصادي عالمي، لكن هذا الوهم قاد إلى العالم المعقد الذي نعيش فيه، حيث تتناقض فيه مثل الديمقراطية الليبرالية، وبخاصة في الديمقراطيات الحية، مع شعبية الحكام الأقوياء، والرغبة بالأمن وقوى كراهية الأجانب والتظلمات”.
ويمثل هذا بالنسبة للمواطنين الأمريكيين العاديين وصنّاع السياسة تحدياً، فلم يعد كافياً أن تدافع عن مثل الديمقراطية الليبرالية، وتعوّل على بقية العالم لكي يتبعك، ومحاصرة أي دولة، سواء كانت قوة عالمية مثل روسيا والصين، أو قوة إقليمية مثل تركيا والسعودية، قد تؤدي إلى زيادة الميول الاستبدادية.
الصحيفة: الهند شكّلت ديمقراطيتها المعقدة عبر تنوع غني من الناس واللغات والتقاليد الدينية، ووصلت إلى مرحلة تأثير عالمي. ومن المهم التأكيد على أن عدم التسامح والاضطهاد يتعارض مع كل شيء يعجب أمريكا في الهند.
وبالمقابل، فإن التواصل عادة ما يقود إلى الحوار، ويفتح مجالاً للدبلوماسية. وعليه، فإن الترويج للمثل الأمريكية يحتاج إلى أن تكون براغماتياً ومتفهماً، حتى عندما يفشل الشركاء في الامتحان، إلى جانب التواضع، عندما تقصر الولايات المتحدة. خذ مثلاً الهند والمأزق الذي تمثله لواشنطن، والذي كان واضحاً في زيارة مودي الرسمية، هذا الأسبوع. فالهند هي ديمقراطية بأكبر عدد من الناخبين في العالم يمارسون حقهم الأساسي بالاختيار. وعدد سكانها هو الأكبر في العالم، واقتصادها هو خامس أكبر اقتصاد في العالم، ولديها شتات يتمتع بتأثير، وبخاصة في الاقتصاد الأمريكي. ولها تاريخ طويل في العلاقة مع موسكو، وحدود طويلة متنازع عليها مع الصين، وموقع إستراتيجي وسط جيران متقلّبين، وعليه ستلعب الهند دوراً مهماً في الجيوسياسة، ولعقود قادمة.
ويقود مودي الهند منذ عام 2014، ويتمتع بشعبية واسعة، ويحظى حزبه بغالبية في البرلمان، وهو في وضع لا يحسد عليه ليقود شعباً شاباً بدرجة نسبية. ولدى الهند تاريخ في الحذر من الولايات المتحدة، فمعداتها العسكرية جاءت من الاتحاد السوفييتي السابق وروسيا، وتفضل أن تبتعد عن التنافس الأمريكي- الصيني، مع أن المسؤولين الأمريكيين البارزين يعتقدون بتحسن نظرة الهند للولايات المتحدة في السنوات الماضية. وهذا بسبب جهود الدياسبورا الهندية الديناميكية، وعبْر الشراكات الإستراتيجية، والاهتمام المتزايد من الشركات الأمريكية في الهند، التي تريد بديلاً عن الصين في آسيا. وانضمت الهند إلى تحالف رباعي “كواد”، يضم الولايات المتحدة واليابان وأستراليا، لمواجهة التأثير الصيني منطقة المحيط الهندي- الهادئ.
وسيجتمع، هذا الأسبوع، مئات من رجال الأعمال الأمريكيين لمقابلة مودي، ويتوقع التوصل إلى سلسلة من الصفقات لبناء محركات الطائرات في الهند وبيع المسيرات لها. وليس من الصعب إذاً فهم سبب استقبال مودي كنجم روك، من مأدبة عشاء رسمية في البيت الأبيض، إلى خطاب في الكابيتال هيل. وبايدن محق في الاعتراف بإمكانية الشراكة الأمريكية مع الهند، واستخدام كل الرموز والأدوات الدبلوماسية التي لديه.
لكن بايدن لا يمكنه تجاهل الجانب الآخر، والمهم بشكل متساو، والتغيرات التي حصلت على الهند، خلال السنوات التسع الماضية. ففي ظل مودي، وحزبه الهندوسي القومي المتطرف، بهارتيا جاناتا، شهدت الهند تآكلاً في الحقوق المدنية والسياسية والحريات الديمقراطية التي يضمنها الدستور الهندي.
واتُّهم مودي وحلفاؤه بتبني سياسات استهدفت وميّزت ضد الأقليات الدينية، وبخاصة 200 مليون مسلم، واستخدام قوة الدولة لمعاقبة وإسكات النقاد. فالمداهمات للمعارضين والأصوات المعارضة باتت منتظمة، وانتهت الصحافة التي تمثل التيار الرئيس، وفقدت المحاكم استقلاليتها وتآكلت بقية المؤسسات الديمقراطية.
كل هذا وسط جوقة من تصريحات قادة بهارتيا جاناتا، بأنهم يتصرفون بناء على القانون. ففي آذار/ مارس أصدرت محكمة في ولاية مودي حكماً بالسجن عامين ضد زعيم المعارضة راهول غاندي بتهمة التشهير بمودي، ومع أنه لم يتم تنفيذ السجن، إلا أن الحكم قاد إلى طرده من البرلمان، وقد يمنعه من الترشّح مرة أخرى.
وقبل ذلك استخدمت حكومة مودي قوانين الطوارئ لوقف برنامج وثائقي أعدته “بي بي سي” في كانون الثاني/يناير عن مودي، وقامت بإعادة فحص المزاعم التي تشي بدوره في العنف الطائفي القاتل بولاية كوجرات، قبل عشرين عاماً، عندما كان المسؤول الأول فيها.
وكما يرى فريق التحرير: “عندما يقوم الزعماء الشعبيون باستحضار قوانين الطوارئ، فالديمقراطية في خطر”. ويظل هذا صحيحاً، ويتعين على بايدن وكل المسؤولين المنتخبين، وقادة رجال الأعمال الذي سيلتقون الوفد الهندي، هذا الأسبوع، التأكد من مناقشة القيم الديمقراطية المشتركة ودمجها بالأجندة. وربما كان هذا طموحاً كبيراً، لأن مودي أظهر أنه غير متسامح وشائك مع النقد، وربما لا يزال يحمل سخطاً من قرار منعه دخول الولايات المتحدة، ولعشرة أعوام، بتهم “الانتهاكات الخطيرة للحرية الدينية”، وبسبب كوجرات. ونفى مودي بشكل متكرر الاتهاماتـ وتم رفع الحظر أخيراً، عندما قام باراك أوباما بإلغائه بعد وصول مودي للحكم.
ومن هنا، فإن شجباً عاماً لمودي لن يخدم أي هدف إلا إغضاب الرأي العام الهندي، وبخاصة عندما تواجه أمريكا مشكلتها مع الديمقراطية. ومع ذلك، على بايدن وبقية المسؤولين أن يكون لديهم استعداد للحديث الصريح، وحتى لو كان غير مريح مع نظرائهم الهنود. ومشكلة أمريكا مع الديمقراطية هي مدعاة للتواضع، ودليل على أن الديمقراطيات الفاعلة ليست محصنة من المشاكل. وكما ورد في رسالة “هيومان رايتس ووتش” إلى بايدن: “يمكن للمسؤولين الأمريكيين الإشارة إلى الكيفية التي كافح فيها النظام السياسي الأمريكي للتعامل مع الخطاب السام، والحفاظ في نفس الوقت على إعلام حر ومفتوح. ويمكن مناقشة هذه الموضوع وبشكل مفتوح ودبلوماسي بين الطرفين”. وهذا المأزق ليس مع الهند، فالطريقة التي تدير فيها الولايات المتحدة علاقاتها مع “المستبدين المنتخبين”، من حزب القانون والعدالة البولندي، إلى بنيامين نتنياهو وتحالفه المتطرف، إلى رجب طيب أردوغان في تركيا، هي واحدة من أهم الأسئلة الإستراتيجية في السياسة الخارجية الأمريكية.
وبالتأكيد سيراقب هؤلاء القادة الطريقة التي ستتعامل فيها واشنطن مع هذه الديمقراطية التي لا يستغنى عنها، ولكنها ديمقراطية آسيوية مستبدة وبشكل متزايد. وتواجه الإدارة مشكلة في تراجع مصداقيتها الديمقراطية، والتي شوّهها دونالد ترامب، وإمكانية عودته إلى البيت الأبيض. وكانت سياساته ملهمة للكثير من المستبدين المنتخبين، بمن فيهم مودي، والذي شبه ترامب جاذبيته بإلفيس بريسلي في تجمع بهيوستن، أثناء زيارته عام 2019.
ويعرف بايدن، وعبر خبرته الطويلة في العمل العام، أن هناك ملامح توتر في العلاقة بين الشركاء، وبخاصة عندما يكون الشركاء لا يشتركون في الموقف من العالم.
ويقول المسؤولون في الحكومة الأمريكية إن الإدارة تعرف بعيوب حكومة مودي، ولكنهم يعتقدون أن دور الهند محوري على المسرح العالمي، ويتفوق على مظاهر القلق بشأن زعيم واحد. وقالوا إنهم سيطرحون مظاهر القلق في اللقاءات الخاصة، وطرحوها من قبل في الكثير من النقاشات، وسيعيدون التذكير بها هذا الأسبوع. ومن الضروري طرحها، لأن الهند شكّلت ديمقراطيتها المعقدة عبر تنوع غني من الناس واللغات والتقاليد الدينية، ووصلت إلى مرحلة تأثير عالمي. ومن المهم التأكيد على أن عدم التسامح والاضطهاد يتعارض مع كل شيء يعجب أمريكا في الهند، ويهدد الشراكة مع الولايات المتحدة، التي يحاول رئيس الوزراء تقويتها وتعميقها. وتريد أمريكا وتحتاج للتعاون مع الهند، ولكن يجب ألا يكون لدى مودي أي وهم بخطورة ميوله الأتوقراطية لشعب الهند، وصحة الديمقراطية حول العالم.
وفي مقال بنفس الصحيفة بعنوان “ثمن الصداقة مع مودي”، قالت أستاذة التاريخ في جامعة هارفارد، مايا جاسانوف، إن الاستقبال الحافل لمودي في واشنطن هو تتويج للتقييمات الرائعة للهند من قبل الجميع، من بيل غيتس إلى وزيرة التجارة جينا ريموندو. ولا يمكن أن تكون الرسالة أوضح: في الحرب الباردة الثانية مع الصين، تريد الولايات المتحدة الهند إلى جانبها.
وبصفة الكاتبة أمريكية من أصل هندي فهي سعيدة للتغير الذي حصل على صورة الهند في أمريكا، ولكن هناك ما يحتاج الأمريكيون إلى معرفته عن الهند تحت حكم مودي، وأنه قاد مسلحاً، بعقيدة شديدة الحدة للقومية الهندوسية، أوسع هجوم على الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الأقليات، منذ 40 عاماً، على الأقل: “لقد قدم الرخاء والافتخار القومي للبعض، والاستبداد والقمع لكثيرين آخرين، وهو ما يجب أن يزعجنا جميعاً”.
منذ أن تولى مودي السلطة، انهار ادعاء الهند التي كانت تفتخر بأنها مجتمع ديمقراطي حرّ.
ومنذ أن تولى مودي السلطة في عام 2014، انهار ادعاء الهند التي كانت تفتخر ذات يوم بأنها مجتمع ديمقراطي حرّ على عدة جبهات، من سجن المعارضين وطردهم من البرلمان إلى حذف التاريخ الإسلامي من الكتب المدرسية الوطنية، وإعادة تسمية المدن التي حملت أسماء إسلامية، إلى تجريد الولاية الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة في الهند، جامو وكشمير، من حكمها الذاتي.
ويميل المعلقون الغربيون المتحمسون بشأن “الهند الجديدة” إلى تجاوز هذه الفظاعات وكأنها مجرد حرف للانتباه عن النمو الاقتصادي للهند، وإمكانات الاستثمار فيها. والأرقام التي تقدمها الكاتبة تعطي فكرة مختلفة عن الازدهار في ظل مودي، من زيادة البطالة والمحسوبية وغير ذلك. كما قالت إن سياسات الهند تحت حكم مودي تؤثر أيضاً على المجتمعات الأمريكية وأماكن العمل والحرم الجامعي مع نمو الشتات الهندي في الولايات المتحدة.
ففي إديسون، بولاية نيوجيرسي، قاد المتظاهرون في موكب يوم الهند السنوي، في آب/ أغسطس الماضي، جرافة مزينة بصور مودي ووزير في الحكومة الهندية اليمينية المتطرفة كان قد أمر بهدم منازل وشركات المسلمين، مما يجعل هذه المركبات رموز كراهية استفزازية، مثل حبل المشنقة أو الصليب المحترق في مظاهرات كو كولاس كلان الداعية لتفوق العرق الأبيض.
وتعلق بأن الولايات المتحدة لديها تاريخ طويل مؤسف في دعم الأنظمة الاستبدادية العنيفة، بما في ذلك نظام باكستان، العدو اللدود للهند، خلال حرب يطلق عليها على نطاق واسع الإبادة الجماعية في شرق باكستان، بنغلاديش الآن. لقد تغاضت أمريكا باستمرار عن انتهاكات حقوق الإنسان، والتراجع الديمقراطي لدى الحلفاء الإستراتيجيين، بما في ذلك إسرائيل وتركيا.
قد يقول الدبلوماسيون إن الدعوة الموجهة إلى مودي لا تهدف إلى الاحتفال به أو بنظامه، بل لتعزيز العلاقات المهمة بين دولتين ومواطنيهما في لحظة جيوسياسية حرجة: “لكن دعونا لا نخدع أنفسنا؛ مودي، الذي حُرم، قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، من تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، بزعم أنه تغاضى عن مذبحة للمسلمين، في عام 2002، جعل نفسه وجه أمته، تطل صورته مبتسماً على اللوحات الإعلانية على كل دوّار مرور، وعلى جوانب مواقف الحافلات، وعلى الصفحات الرئيسية لمواقع لا حصر لها. يمكننا أن نكون على يقين أن التقاط الصور مع كبار الشخصيات في واشنطن سيحتل مكانة بارزة في حملته لإعادة انتخابه العام المقبل”. وما هو ليس معروفاً، تقول، إن كان مودي سيقدم نوع الشراكة الإستراتيجية أو الاقتصادية التي تسعى إليها واشنطن. ويجب على المشرعين الأمريكيين تمرير مشاريع قوانين تحمي الطبقات الهندية المنبوذة، وتثقيف أنفسهم بما يكفي لتجنب الخطأ الذي ارتكبته مؤخراً الجمعية العامة لإلينوي، عندما أنشأت مجلساً استشارياً أمريكيا هندياً باستخدام مصطلحات أدت إلى تهميش المسلمين بشكل مثير للاستياء. يجب على أرباب العمل أن يدركوا أن مناشدات الهوية الهندوسية، و”رهاب الهندوسية”، قد تكون متجذرة في الحملات المناهضة للأقليات والتمييز الطبقي. يجب أن يكون مديرو الجامعات مستعدين للجهود التي تبذلها الفصائل المتحالفة مع مودي لفرض رقابة على خطاب وأبحاث أعضاء هيئات التدريس والطلاب والضيوف. ومن المهم أيضاً أن ندرك التنوع في جميع الجوانب للشتات الهندي في أمريكا، والذي يشمل التقدميين، مثل براميلا جايابال ورو خانا، والمحافظين، مثل نيكي هالي وفيفيك راماسوامي، وأن نتذكر أن الأمريكيين الهنود هم مجموعة فرعية ذات ثراء غير متناسب، ومتعلمون جيداً من الشتات الأوسع من جنوب آسيا، الذي لدى مكوناته احتياجات ومصالح مميزة.
و”مثل الولايات المتحدة، تعدّ الهند دولة ديمقراطية غير عادية ومتنوعة ومتعددة، مع موهبة وإمكانات لا تصدق. وهناك الكثير، من حيث المبدأ، لتوحيد هذه الدول من أجل الخير. لكن، بينما يتعاون رئيس دولة ديمقراطية متعثرة مع رئيس وزراء عازم على عرقلة ديمقراطية أخرى، يبدو أن مشروع الحرية العالمية يقترب خطوة من الانهيار”.