لندن- “القدس العربي”: نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقالا للبرفسور أوليفر ناتشوي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة بازل، ومؤلف كتاب “أزمة ألمانيا المخفية: التدهور الاجتماعي في قلب أوروبا” علّق فيه على نتائج الانتخابات الألمانية.
وقال ناتشوي: “سنوات أنغيلا ميركل في الحكم تقترب من نهايتها، لكن ليس بعد”. وأدلى الناخبون بأصواتهم في انتخابات الأحد، وكانت النتائج ملتبسة للغاية، فلم يحصل أي حزب على أكثر من 26% من الأصوات. وكانت الفجوة بين الأحزاب الكبيرة ضيقة، ولم يحقق أي منها تقدما كبيرا. وعليه، فتشكيل الحكومة بعيد عنا أسابيع وربما أشهر من التفاوض على ائتلاف.
وفي الفترة الانتقالية، ستواصل ميركل مهامها كمستشارة لحين تشكيل الحكومة. وهي نتائج مثيرة للدهشة بطرق متعددة. فقد ظل حزب الخضر والاتحاد المسيحي الديمقراطي في مقدمة استطلاعات الرأي. ولكنهما فشلا. وعانت الحملات الانتخابية لهما، حيث لم يستطع مرشحاهما إقناع الناخبين بأنهما خليفان حقيقيان لميركل. وبدا زعيم الحزب الاشتراكي أولاف شولتز مرشحا قويا للخلافة، لكنه تراجع. ولهذا لم يكن هناك فائز حقيقي وحاسم.
وربما كانت الانتخابات الأخيرة بداية جديدة في ضوء التحديات الملحة مثل زيادة التفاوت الاجتماعي والاقتصادي وتآكل البنية التحتية والتغيرات المناخية. وكانت الانتخابات فرصة لرسم طريق أكثر مساواة للقرن الحادي والعشرين. وبدلا من ذلك ظلت ألمانيا عالقة.
فميركل ستغادر المشهد، ولكن ألمانيا التي رعتها بحذر وهدوء وخوف من التغيرات الكبرى، ستواصل طريقها كما في الماضي. ومنحت الحملات الانتخابية مفاتيح أولية. فعادة ما يحاول المرشحون للمناصب العليا إبعاد أنفسهم قدر الإمكان عن الرئيس أو المسؤول في الحكم وإظهار تفوق رؤيتهم للبلد. وفي ألمانيا تنافس المرشحون على تقليد سياسات ميركل وأسلوبها في سياسة الوسط. وهي السياسة التي منحت ميركل أربع انتصارات متتالية.
فقد حاولت زعيمة حزب الخضر أنالينا بيربوك بناء صورة عن التصميم والاجتهاد والخبرة مثل ميركل. وفشلت بسبب فضيحة الانتحال وربما بسبب تردد الناخبين في انتخاب أي شخص بدون خبرة في الحكم، ولهذا خسرت تقدمها المبدئي في الحملات الانتخابية، وانتهت بحصة 14% من الأصوات. وحاول خليفة ميركل أرمين لاشيت، وزعيم الاتحاد المسيحي الديمقراطي، تقديم صورة عن القدرة والفعالية، ولكن جهده تقوض بسبب حملته غير المنظمة والأخطاء المتعددة، والتي كان أبرزها مزاحه وظهوره ضاحكا أثناء زيارته ضحايا الفيضان هذا الصيف.
وبحصوله على نسبة 24% من الأصوات، فإنه يقود حزبا بأسوأ النتائج في تاريخه، ولكنه سيحاول تجميع ائتلاف. وهناك شولتز، المرشح عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي والذي لم يأل جهدا بربط نفسه مع المستشارة التي ستغادر المشهد، وقدّم نفسه على أنه رمز الاستمرارية وليس لاشيت. وكانت المناورة سهلة له؛ لأنه عمل نائبا للمستشارة ووزيرا للمالية. وتبنى شعار اليد لميركل المعروف “مثلث القوة”. ونجحت هذه الاستراتيجية إلى حد ما، إلا أن نسبة 26% تقريبا التي حصل عليها حزبه لن تكون كافية لتأمين منصب المستشار له.
ولا يتوقف التداخل بين المرشحين عند الأسلوب السياسي. فبعد 16 عاما على حكم ميركل، استقر البلد في حالة من الوضع الراهن، ولا شيء جاهز للتغيير سواء اقتصاديا أو اجتماعيا أو بيئيا. فمن الناحية الاقتصادية، لم يكن هناك أي مجال للتغيير، ذلك أن ألمانيا تقدر قيمة استقرارها المالي المتكيف مع التجارة الدولية والمكيف نحو التصدير وبقطاع تصنيع كبير.
كما أن التأكيد على ميزانية متوازنة، وكبح الديون القانون الذي تم تمريره في 2009 يحظر حصول أي عجز في الميزانية، ويضع قيودا على ما هو ممكن: فلن يكون هناك مجال أمام برنامج استثمار قائم على القروض أو نفقات كبرى على البنى التحتية. وفي هذا الإطار لم يكن هناك أي مجال لإعادة هيكلة الاقتصاد. ومن الخارج، بدا الاقتصاد ناجحا لكن المنافع الاقتصادية لم توزع بشكل واسع. فقد زادت معدلات التفاوت في الثروة. وتملك نسبة 1% من الأغنياء ربع الثروة في البلاد.
وتعتبر ألمانيا الأكبر من ناحية الأجور المتدنية بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وواحد من بين خمسة عمال، أي حوالي 8 ملايين يحصلون على أقل من 11.40 (13.36 دولار) في الساعة. وبناء عليه فالسخط الاجتماعي في تزايد مستمر، وشهدت السنوات العشر الماضية عودة للإضرابات بشكل واضح. وعاد مصطلح “مجتمع الطبقة” الذي اختفى من اللغة العامة إلى الظهور مجددا.
وبدا الغضب المتزايد في الدعم لحزب البديل اليميني المتطرف ونظريات المؤامرة المتعلقة باللقاح والدعوة لعدم أخذها. ومواجهة هذه التحديات تحتاج إلى تغيرات عميقة ولا أحد من الأحزاب مؤهل أو قادر على التعامل معها. وفي السياق نفسه، لا أحد يتوقع مدخلا طموحا، خاصة فيما يتعلق بالتغيرات المناخية. وهذا راجع لأن الحكومة ستشكل من ثلاثة أحزاب، وهي أول مرة في تاريخ ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وقد يقودها الاتحاد المسيحي الديمقراطي أو الحزب الاشتراكي الديمقراطي، اللذان سيحاولان استبعاد بعضهما البعض من خلال البحث عن دعم الخضر والحزب الديمقراطي الحر.
ورغم تعهد حزب الخضر بـ”جعل المستحيل ممكنا” إلا أن وجود الحزب الديمقراطي الحر -وهو حزب ليبرالي ومع طبقة رجال الأعمال والذي يرى أن السوق والتكنولوجيا مسؤولة عن حل أزمة المناخ وليس الدولة- سيضع قيودا على تطبيق سياسات بيئية طموحة. ومن المفارقة أن الحملات الانتخابية جرت على خلفية الكثير من الأزمات مثل الوباء المستمر في البلد، وهزيمة الناتو التاريخية في أفغانستان، والفيضان النابع من التغيرات المناخية والذي دمر مساحات واسعة من البلد هذا الصيف، وأدى لوفاة حوالي 200 شخص.
وكل مشكلة تحتاج لجهد كبير، لكنها تشكل مجموعة تحد لوضع التعامل العادي، وليس على المستوى الأوروبي، حيث تحتاج الكتلة الأوروبية لقيادة قوية وجرأة. ولن يحدث هذا، وسيكون العهد الجديد بعد ميركل هو عبارة عن سياسات توافقية وفاترة ونفسه بدون تغيير.