لندن – “القدس العربي”:
قال المعلق المعروف في صحيفة “نيويوك تايمز” توماس فريدمان إن الرئيس دونالد ترامب قرر مواجهة أقدم حضارتين في العالم وتغيير تصرفاتهما وفي وقت واحد، ولكن بدون أن يكون لديه خطط ولا أهداف.
ويقول إن الضغط بهذا الإتجاه ليس عملا جنونيا ولكن الجنون هو التعهد بالقيام بهذه المواجة العظمى بدون أهداف صحيحة وبدون حلفاء لمساعدته على إنجاز الأهداف وبدون أن يكون لديه فريق أمن قومي متماسك وبلا تناسق مع بقية أهداف السياسة الخارجية لإدارته.
وبعد كل هذا قام ترامب وبقرار فردي بالخروج من الإتفاقية النووية الموقعة عام 2015 التي أوقفت المشروع النووي وفي وقت حاول فيه تحفيز الديكتاتور الكوري الشمالي كيم جون- أونغ والموافقة للتخلي عن مشاريعه النووية.
وقام الرئيس بفرض عقوبات تجارية على الصين وفي الوقت نفسه يريد مساعدتها في لإقناع كوريا الشمالية التخلي عن مشاريعها النووية. كما وفرض ترامب تعرفات جمركية على الألمنيوم الأوروبي وهو بحاجة لدولها في مواجهة كل من الصين وإيران. وفي الأسبوع الماضي كانت أمريكا بعيدة عشرة دقائق عن المواجهة مع طهران قبل أن يقرر وقفها في وقت لم تستطع الولايات المتحدة تحقيق الإستقرار لا في العراق أو الخروج من أفغانستان.
ويرى فريدمان أن ترامب يستحق الثناء في شيء واحد من خلال التسبب بالألم لإيران وخنق كل انتاجها النفطي. وعلى الصين التي فرض 250 مليار دولار على صادراتها للولايات المتحدة وعلى المنتجات من شركتها العملاقة “هواوي”. وبعبارة أخرى أصبح لدى ترامب ورقة نفوذ على الصفقات التعاقدية أو التحويلية من البلدين. ويقول إن رئيسا يتصرف بنوع من الجنون يمكن أن يحقق شيئا في وقت ما، أما الرئيس الذي يتصرف بجنون دائم، ويخلق ألمان بدون أهداف واضحة، ويؤكد دائما أنه ينتصر ويخسر الأخرون وبدون أن يكون لديه ممر آمن للخروج، هو رئيس ليس جيدا.
وتساءل فريدمان إن كان ترامب يريد تغيير النظام في إيران أم أنه يريد فقط تغيير سلوكها؟ وهل يريد تقليل العجز في التجارة مع الصين أم أنه يريد الحصول على صفقة عادلة لشركاتنا؟ ويجيب الكاتب أن هذا الوضع ليس واضحا له ولا للرئيس نفسه. والسؤال الحقيقي إن كان الرئيس منضبطا بدرجة ما وصبورا وماهرا لترجمة الالم الذي تسبب به إلى مكاسب ملموسة ودائمة للولايات المتحدة؟
ولأن الصين وإيران تمثلان مشاكل مختلفة فالصين تعتبر مهمة وذات قيمة أما إيران فتمثل مشكلة مثيرة للقلق. ف
الصين تسيطر على أهم صناعتين في القرن الحادي والعشرين وهما الذكاء الصناعي والسيارات الكهربائية. وهي تريد استخدام الذكاء الصناعي لتقوية سيطرتها الديكتاتورية في الداخل والسيارات الكهربائية والبطاريات لتحرر نفسها من الإعتماد على “النفط القديم” من القرن الماضي. وتعرف الصين أن البيانات هي “النفط الجديد”، ولهذا فالبلد الذي تستطيع حكومته وشركاته الحصول على أكبر كمية من البيانات وتحليلها وتحسينها بطريقة مثالية فسيكون هو القوة العظمى في هذا القرن.
أما إيران، فتقودها مؤسسة رجال الدين متقدمة في العمر وضيقة النظر تركز نظرها على اكتساب أهم تكنولوجيا في القرن العشرين، وهي السلاح النووي من أجل السيطرة على منطقة الشرق الأوسط وإخراج الولايات المتحدة والإنتصار في المعركة على الدول السنية العربية وقيادة العالم الإسلامي. وفي محاولتهم لتحقيق هذا تقوم المؤسسة الدينية بقمع شعب موهوب وغني بالثقافة وتمنع أبناءه من اكتشاف مواهبهم بشكل كامل.
وتعتمد إيران بشكل كامل على بيع النفط الذي كان قوة القرن العشرين، ولم تعد أمريكا بحاجة إليه لأنها الدولة الأكبر في مجال إنتاجه على مستوى العالم، لا السعودية أو روسيا ولا إيران. ولو أغرقت إيران ناقلة نفط في الخليج فستخلق طوابير للوقود في الصين لا أمريكا. ولهذا السبب تحتاج أمريكا إلى صفقة تعاقدية مع إيران وتحويلية مع الصين.
ولو كان ترامب ذكيا لقام بعقد صفقة محدودة مع إيران، فالولايات المتحدة بوجودها المنخفض في الشرق الأوسط ليست بحاجة للتورط في حرب جديدة مع طهران ولا هندسة عملية “محو” كما هدد ترامب إيران لو ضربت القوات الامريكية بالمنطقة. ويجب على ترامب دعوة بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين، التي وقعت على اتفاقية 2015 الموقعة مع إدارة باراك أوباما والمشاركة في تحسين الصفقة وبعرض واضح: سترفع الولايات المتحدة العقوبات عن طهران لو وافقت هذه على تمديد مدة الحد عليها لإنتاج القنبلة النووية من 15 عاما، كما في المعاهدة الاصلية إلى 30 عاما والموافقة فحص الصواريخ الإيرانية ذات المدى الطويل. فمنع إيران والدول العربية من الحصول على السلاح النووي لعدة عقود، سيكون إنجازا عظيما. وستكون صفقة سهلة ويمكن التأكد منها من خلال حلفاء أمريكا الذين سيوقعون عليها بالإضافة للصين وروسيا. ولن تعترض إيران التي تعاني من مصاعب اقتصادية على العرض المقدم لها. و “بعدها يمكننا الجلوس وانتظار البعد التحويلي الذي سيخرج من داخل إيران وتحديدا شعبها الذي يستحق الأفضل ويقوم بالتخلص من النظام العفن”.
وقد يحتاج الأمر سنوات لكن القوى الخارجية لا يمكنها استعجال التاريخ الإيراني، فمحاولة تغيير النظام في الوقت الحالي ستقود إلى فوضى وأزمة لاجئين على مستويات واسعة. وفي حالة الحد من المشروع النووي الإيراني لمدة 30 عاما فعندها تستطيع إسرائيل حماية نفسها بنفسها، أما السعودية فستحصل على السلاح الأمريكي كي تحد من طموحات إيران. صحيح، إيران هي لاعب سيء ولكن السعودية قتلت وقطعت الصحافي جمال خاشقجي وذوبت جثته على ما يبدو بالحامض، وسجنت في الوقت نفسه النساء الداعيات لحقوق المرأة السعودية. ويجب علينا أن نأخذ نظرة كريم ساجدبور، من وقفية كارنيغي الثاقبة بعين الإعتيار “لدى أمريكا أعداء سيئون في الشرق الأوسط ولديها في الوقت نفسه حلفاء سيئين”.
وتمثل الصين تحد أعمق، فقد نشأت من الفقر واعتمد على العمل الجاد والإستثمار الذكي في البنى التحتية والتعليم واستثمارات في مجال البحث وتصنيع إبداعات الآخرين. وسرقت الصين إلى جانب هذا الملكية الفكرية للآخرين وأجبرت الشركات العاملة فيها على نقل التكنولوجيا وفرضت اتفاقيات تجارية غير متبادلة وقدمت دعما حكوميا لصادراتها وتجاهلت قواعد منظمة التجارة العالمية. و “لو سمحنا للصين مواصلة ممارساتها المؤذية التي استخدمتها للسيطرة على الصناعة وتجميع بضائع ضخمة والتنافس مباشرة مع التكنولوجيا العالية وذات الجودة العالية للقرن الحادي والعشرين مثل فايف جي ومواد جديدة وذكاء صناعي والفضاء والرقائق فسنكون مجانين”. ولكن النموذج الصيني الحالي في قوته وممارسته الضارة مهم للحفاظ على الحزب الشيوعي في السلطة. ولن تتخلى عنه بيجين بسهولة. ولهذا السبب فنحن نواجه لحظة كبيرة وليست عادية، وما هو على المحك بين ترامب والصين هو الإقتصاد العالمي الذي ننشده. أما الرهان مع إيران هو منع انتشار التكنولوجيا النووية. ولهذا السبب فعام 2019 هو عام محوري مثل عام 1945 و1989 “وآمل أن ينتهي على خير”.