لندن- “القدس العربي”: قالت صحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير أعده سايمون ماركس، إن السودان أطاح بديكتاتور، لكن البعض يرى أن الاستقرار الحقيقي لن يتحقق حتى يتم الكشف عن حقيقة قتل مئة من المحتجين الداعين للديمقراطية في الخرطوم.
فبعد عامين على مقتل أكثر من 100 شاب سوداني في الثورة التي أطاحت بعمر البشير لا تزال جثثهم منسية في زاوية من العاصمة. وتنبعث الرائحة الكريهة من المشرحة التي وضعت فيها الجثث، فانقطاع التيار الكهربائي منتظم وحر الصيف شديد. وخارج المشرحة جلس الأصدقاء وأفراد العائلة احتجاجا وغضبا على فشل السلطات في تشريح الجثث. ويعتقدون أن الحكومة تحاول إخفاء الأدلة التي قد تؤدي لمحاسبة من قتلوا أحبائهم.
وقال معز محمد، الذي قُتل شقيقه على يد قوات الأمن في 3 حزيران/ يونيو 2019: “يحاولون تأخير النتائج عن قصد. يعرف الجميع من قتل الناس”. وتعلق الصحيفة أن المشهد المروع هو عبارة عن إشارة عن مهمة لم تنجز وأحلام لم تتحقق للثورة السودانية. فعملية انتقال البلد إلى الديمقراطية كانت هشة، ويحاول فيها المدنيون والعسكريون التحكم بالسلطة، ولا شيء يوضح النزاع هذا أكثر من التوتر حول جثث القتلى في المشرحة. ففي حزيران/ يونيو 2019، فتحت قوات الأمن النار على مئات من المعتصمين في العاصمة الخرطوم في محاولة قاسية للتذكير أن الجيش السوداني هو من يقرر في البلاد رغم التخلص من عمر البشير قبل شهرين بسبب احتجاجات المدنيين.
وتحضّر عائلات الضحايا بقلق لتظاهرة حاشدة في 30 حزيران/ يونيو للتعبير عن إحباطهم. ويقولون إنهم لا يزالون بانتظار محاسبة أفراد قوات الأمن والردع السريع المرتبطة بجرائم في دارفور وأماكن أخرى في السودان. وفي مقابلات مع خبراء الطب الشرعي والمحققون المعينون من قبل الدولة والنائب العام السابق الذي استقال الشهر الماضي قالوا إن عملية التحقيق تتعرض للإعاقة من قوات الأمن ومحاولات التستر على الأدلة.
وقال المسؤولون الذين لهم علاقة بالتحقيق -وزارة العدل والنائب العام السابق والمحقق العام- إن المحققين اكتشفوا قبل فترة مقبرة جماعية خارج الخرطوم، في أم درمان تحتوي على جثث مئات الأشخاص الذين يعتقدون أنهم قُتلوا عندما فتح الجنود النار على المعتصمين يوم 3 حزيران/ يونيو 2019 بالخرطوم. ولو تم تأكيد هذا، فستكون حصيلة قتلى ذلك اليوم أعلى من الرقم المعلن عنه.
وسيصل المحققون الذين أرسلتهم وكالة التنمية الدولية الأمريكية إلى السودان الشهر المقبل، من أجل إجراء تقييم أولي للموقع. وقال متحدث باسم الوكالة إن الولايات المتحدة تدعم عملية العدالة الانتقالية في السودان بما في ذلك “توفير خبرات متخصصة عند الطلب وبما يتماشى مع المعايير الدولية”. وفي أيار/ مايو، استقال المدعي العام تاج السر الحبر، حيث قال إن هناك على ما يبدو فصائل داخل قوات الأمن تحاول إخفاء أدلة عن مكتبه الذي يقوم بالتحقيق في القتل. وقال: “لدينا ما نعتقده أن هذا مرتبط بعملية الاعتصام. ولكننا نشعر أن هناك تضارب مصالح”.
وقال الحبر إن المحققين قاموا بتجميع الأدلة وإجراء مقابلات مع الناس الذين يعيشون قرب المقبرة لتحديد وقت وصول الجثث، وكيف وصلت العربات التي استخدمت في نقلها، مضيفا: “لدينا شهود مهمون قدموا شهاداتهم”.
وتعتبر العدالة في هذه الحالة مهمة للحكومة الانتقالية التي تم تشكيلها بعد مفاوضات متعبة بين المجلس العسكري الانتقالي بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، وتحالف قوى الحرية والتغيير بزعامة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك. وتم توقيع إعلان المشاركة في السلطة عام 2019 وإجراء انتخابات في 2024، لكن عدد وثروة وسلطة قادة الجيش جعلت الكثير من السودانيين يشكون في إمكانية تحقق هذا.
وقال دبلوماسيان غربيان بارزان، وواحد من دولة أفريقية مهمة، إن معظم الدول الكبرى من روسيا والصين إلى الولايات المتحدة لاحظوا توترا في العلاقة بين الجنرال البرهان ونائبه الجنرال محمد حمدان (حميدتي) الذي يقود قوات الدعم السريع. ورفض حميدتي بداية الشهر الحالي دمج قواته في القوات السودانية المسلحة التي يقودها البرهان، رغم أن هذا جزء من العملية الانتقالية. وقال أثناء حفل تأبين جندي بالخرطوم: “الحديث عن دمج قوات الدعم السريع في الجيش قد يؤدي إلى تفكيك البلاد”.
وقال ناصر الدين، وهو عضو في فريق التحقيق المعين من الحكومة، إن فريقه عثر على ضحيتين من ضحايا 3 حزيران/ يونيو على بعد 150 كيلو مترا من الخرطوم، بعد الحديث مع القرويين الذين شاهدوا الجثتين تعومان في مياه النيل. وأخذ المحققون عينات من الحمض النووي وتمت مطابقته مع عائلاتيهما، مؤكدا: “هذا دليل قوي”.
ورغم بعض التقدم، إلا أن خبراء الطب الشرعي يتحدثون عن معوّقات من نفس اللجنة التي كُلفت بالتحقيق. وكشف خبيران في الطب الشرعي يعملان في وزارة الصحة عن رسالة من اللجنة تأمر بعدم التحدث إلى الإعلام. وقالا إن اللجنة أمرتهما بعدم إجراء تشريح طب شرعي على الجثث في المشرحة. وقال ناصر الدين إن اللجنة أُمرت بوقف التشريح نظرا لحدوث خطأ لدى خبراء الطب الشرعي وتم دفن بعض الجثث “بدون استخدام الإجراءات الصحيحة”.
ويقول الذين كافحوا من أجل الإطاحة بالبشير، إن الكشف عن هوية المسؤولين عن فض الاعتصام يتماشى مع تخفيف السخط العام بشأن وتيرة العملية الانتقالية وكذا الإجراءات الاقتصادية القاسية وإلغاء الدعم عن الوقود والقمح.
ويواجه السودان أزمة تضخم سنوي فوق 360%. وقالت سماهر المبارك، من جمعية المهنيين السودانيين التي حركت التظاهرات ضد البشير: “عندما نعيش في مجتمع عادل فستصبح الأمور على ما يرام”. ورفض مكتب رئيس الوزراء التعليق على التحقيق، لكن عبد الله حمدوك قال في بيان هذا الشهر إن “العلاقة المعقدة بين أجهزة الأمن المتعددة تلعب دورا في تأخير العدالة”.
ورفض مكتب الجنرال “حميدتي” التعليق، ولكن عائلات الضحايا تنتظر. وقالت أميرة بابكر، المحاضرة في جامعة الأحفاد أن المرة الأخيرة التي شاهدت فيها ابنها كانت قبل يوم من المذبحة، وكان عيد ميلاده في بيت العائلة بالخرطوم. ففي نيسان/ أبريل جاء ابنها محمد هشام (26 عاما) الذي يدرس الهندسة في جامعة لندن وانضم لتظاهرات المطالبين بالديمقراطية.
وفي الساعات الأولى من 3 حزيران/يونيو، ذهب للاعتصام أمام مقر الجيش. وظلت بابكر تطمئن عليه كل ساعة وسط شائعات حول حشود قوات الأمن. وتقول: “اتصلت به في الساعة 5.15 بدون رد” وفي متتصف اليوم ذهبت العائلة إلى مستشفى استقبل الجرحى ووجدت أنه أصيب برصاصة في عينه “وفتحت الشرطة ملفا، ولم يحدث شيء ولم تتحقق العدالة”.
حمديتي هو المسؤول بالدرجة الأولى!