(1)
مُذْ أَضْرَمَتْ
حُمّى التَّسَلُّطِ في إهابِكَ نارَها،
ما زِلْتَ، يا نَيْرونُ، تَفْتَعِلُ الحَرائِقَ،
في بَهيمِ اللَّيْلِ أوْ وَضَحِ النَّهارْ،
وَتُهَدِّدُ الدُّنْيا بِأَعْمِدَةِ الدُّخانْ.
وَتَروحُ تُطْلِقُ، كُلَّ حِيْنٍ،
حِقْدَكَ المَسْعورَ، في كُلِّ اتِّجاهٍ،
كي يَظَلَّ العَرْشُ مَرْهونا
لِأَعْراضِ السُّعارْ.
وَلْتَحْتَرِقْ، منْ بَعْدِهِ، روما
كَأَيَّةِ دُمْيَةٍ يَلْهو بِها،
في غَفْلَةٍ منْ أَهْلِهِ،
وَلَدٌ تَعَوَّدَ أنْ يُراهِنَ،
كُلَّما غَفِلوا،
وَيَخْسَرَ في الرِّهانْ.
وَتَروحُ تُضْرِمُ
نارَكَ الهَوْجاءَ فيها،
عَلَّها تَأْتي على
ما أَبْدَعَ الرَّحْمَنُ منْ بَدْعٍ،
وَما اجْتَرَحَتْ يَدَ الإنْسانِ
منْ سِحْرِ البَيانْ.
(2)
لَكِنَّ روما سَوْفَ تَنْفُضُ
عَنْ جَناحَيْها رَمادَ المَوْتِ،
ذاتَ عشيَّةٍ،
وَتَروحُ تُوْري جَمْرَةَ التَّحْليقِ
مِنْ مَوْتِ الرَّمادْ.
فَالنّارُ، يا نَيْرونُ، لا تَقْوى
على إِخْمادِ جَمْرَتِها،
وَلا يَنْبو لها سيفٌ،
وَلا يَكْبو زِنادْ.
وَتَروحُ تَزْرَعُ
في حُقولِ الفِكْرِ حِنْطَتَها،
فَيَزْدَهِرُ المَدى
بِمَواسِمِ السِّحْرِ الحَلالِ،
وَتَزْدَهي الدُّنْيا
بِأَعْراسِ الحَصادْ.
(3)
يا أيُّها المَهْووسُ بِالكُرْسِيِّ
كَمْ حَطَّمْتَ منْ لُعَبٍ،
وَكَمْ أَيْقَظْتَ منْ فِتَنٍ،
وَكَمْ أَخْفَرْت منْ ذِمَمٍ،
فَصِرْتَ بِلَعْنَة التّاريخِ،
يا نَيْرونُ، مَوْصوما،
وَصِرْتَ بِأَحْرُفِ الشَّيْطانِ
مَمْسوسا وَمَوْسوما.
وَروما لمْ تَزَلْ روما
تُجَرِّدُ منْ صَميمِ الصَّخْرِ
لِلْأُولِمْبِ آلِهَة،
وَتُطْلِقُ في فَضاءِ الرّوحِ
لِلْإبْداعِ أَجْنِحَة،
وَتُوري جَمْرَة لِلْفِكْرِ،
لا تَخْبو لَها نارٌ،
على مَرِّ الزّمانْ.
وَتُراوِدُ التّاريخَ
عنْ أسْمائِهِ الحُسْنى،
فَتَقْتَرِبُ السَّماواتُ العُلى منْها،
وَيَتّسِعُ المَكانْ.
٭ شاعر لبناني
/ نيرونُ ماتَ ولمْ تَمُتْ روما بعينيها تقاتلْ
وحبوبُ سُنْبُلةٍ تجفُّ ستملأُ الوادي سنابلْ
رحمك الله يا محمود درويش
هذا النمط الشعريّ يليق بزين الدّين ؛ ففيه إيقاع الرّوح والحنين مع موسيقى الرنين.ملاحظة محبة لحضرتك في قولك : { لَكِنَّ روما سَوْفَ تَنْفُضُ }.يقول الكسائيّ : ( عند العرب تشديد النون إذا اقترنت بالواو؛ وتخفيفها إذا لم تقترن بها ؛ وعلى هذا جاء أكثر القرآن العزيز؛ كقول الله تعالى : { ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون }(الأنعام 166).وقوله : { لكن الرسول…}(التوبة 88).ينظر: البرهان في علوم القرآن : الزركشيّ ؛ ج4 ؛ ص 416.وعلل الفراء ذلك بأنها مخففة فتكون عاطفة بمعنى (بل ) ؛ فلا تحتاج إلى واو معها ؛ وأما إذا كانت مشددة فإنها تعمل عمل ( إنّ ) ولا تكون عاطفة.مع التقدير لإبداعك الشعريّ الجميل.
أختلف اختلافًا كليًّا، هنا، مع الأخ جمال البدري في محاولته «الإرشَاديَّةِ الودِّيَّةِ» في التصويب النحوي،
فما أوردَهُ من كلامٍ عن الكسائي بهذا الشرطِ الصارمِ بخصوصِ اقتران، أو عدم اقتران، الواو بكلمة «لكنَّ» (بالنون المشدَّة، تحديدًا) ليس منزَّلاً من السَّماءِ بأيةِ هيئةٍ كانتْ.
قبلَ كلِّ شيءٍ، «لَكِنَّ»، بوصفه حَرْفا أصلُهُ «لاَكِنَّ» حُذِفَت ألفُهُ لحنًا لكي يكونَ حرفًا مُشَبَّهًا بِالْفِعْلِ، يأتي إمَّا لِلِاسْتِدْرَاك، نحو: «جَاءَ الابْنُ لَكِنَّ الأَبَ غَائِبٌ»، وإما للتَّوْكِيدِ، نحو: «لَوِ اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ لَصَفَحْتُ عَنْهُ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ»، وسواءً اقترنَ هذا الحرفُ (المُشَبَّهُ بِالْفِعْلِ بالذاتِ، ذو النونِ المشدَّدةِ، ها هُنا)، سَواءً اقترنَ بالواوِ أم لمْ يقترنْ.
[يتبع]
[تتمة]
وتأييدًا لهذه الحُرِّيَّةِ النظميَّةِ الكلاميَّةِ في الاقترانِ (اقترانِ الواو)، أو عدمِهِ، وفي التشديدِ (تشديدِ النون)، أو عدمه، كذلك، مَا جاءَ من آيِ الذكرِ الحَكِيمِ، تأييدًا لا مِرَاءَ فيهِ:
«وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ» (البقرة: 235).
أخيرًا، والأهمُّ من ذلك كلِّهِ، اقترانُ الواو، أو عدمُهُ، وتشديدُ النون، أو عدمُهُ، في هذا السياق القصيدي بالذات، إنما تحكُمُه الضرورةُ الشعرية، وليس القاعدة النحوية، أليسَ كذلك؟!
** بالنون المشدَّة > > ** بالنون المشدَّدة
** (البقرة: 235) > > ** (البقرة: 253)