قوافل المساعدات التي تصل إلى غزة عبر معبر رفح المصري لا تنجح في إنزال كل حمولتها، وموظفو وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة يجدون صعوبة في الصمود أمام وتيرة استيعاب البضائع وتوزيعها. حسب الوكالة، فإن العشرات من موظفيها قتلوا منذ بداية الحرب. الموظفون يضطرون إلى ترك عملهم في ساعة مبكرة نسبياً، والثلاثاء من هذا الأسبوع اضطروا إلى الغياب عن عملهم بسبب عمليات القصف الإسرائيلية. لذا فإن عشرات الشاحنات عالقة في الجانب المصري للمعبر لأنه لا يوجد من يستقبل الشاحنات في الجانب الفلسطيني.
هذه مشكلة إنسانية صعبة، ولا تجد حلاً ناجعاً لها حتى الآن. قضية المساعدات تتطور بسرعة وتصبح موضوعاً استراتيجياً تدور حوله نقاشات كثيفة بين إسرائيل وواشنطن ومصر وقطر، وفي الدائرة الثانية يشكل ضغطاً يزداد في المجتمع الدولي والدول العربية. هذا الضغط، الذي بدأ يقضم في تفهم رد إسرائيل والتماهي مع دوافع الحرب، موجه الآن ضد الولايات المتحدة، التي مطلوب منها العمل أمام إسرائيل للاهتمام بالوضع الكارثي لسكان القطاع، لا سيما الجرحى والمرضى والذين لم يعد لهم مأوى.
في الواقع قوافل سيارات إسعاف مصرية سمح لها هذا الأسبوع بنقل مئات المصابين والمرضى للعلاج في العريش أو القاهرة، وإنقاذ آلاف الذين لديهم جنسية مزدوجة أوشك على الانتهاء، لكن ليس في هذا ما قد يوفر الرد لعشرات آلاف الناس الآخرين الذين يحتاجون إلى علاج مستعجل، في الوقت الذي لا توجد كهرباء بل وهناك نقص كبير في الأدوية داخل المستشفيات التي لم يتم تدميرها، وتقوم الطواقم الطبية بالعلاج، وحتى إنها تجري العمليات مستعينة بضوء الهواتف المحمولة.
لم تقل واشنطن ذلك بصراحة بعد، لكن يبدو أنه لا مناص من وقف إطلاق النار في حرب قد تستمر أسابيع كثيرة، والأكثر صحة القول توقفات لإطلاق النار. الرئيس الأمريكي، أرسل بايدن، في خطابه في مينيابوليس، إشارة إلى ضرورة الهدنة عندما قال: “أعتقد أننا بحاجة إلى بعض الوقت”. بعض الوقت هذا “سيمكننا من إخراج السجناء”، وهو التعبير الذي صححه بعد ذلك إلى “المخطوفين”. ولكن ليس هذا هو الخطأ المهم. فقد تحدث بايدن بلغة الجماعة عندما قال “نحن نحتاج”، أي أن الولايات المتحدة بحاجة إلى فترة زمنية.
سمع مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان، ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أموراً حادة على لسان شقيق ولي العهد السعودي خالد بن سلمان، الذي وصل إلى واشنطن ليطرح على القيادة الأمريكية تخوفات المملكة. السعودية حافظت حتى الآن على عدم بروز واضح في ردودها على الحرب، لا سيما فيما يتعلق بإسرائيل. فهي لم تدن علناً هجوم حماس، وجمدت المحادثات حول التطبيع مع إسرائيل. ولكنها تسمح لوسائل الإعلام فيها بنشر مقالات “تكفيرية” مثل المقال الذي كتبه الصحافي اللبناني المعروف نديم قطيش، الذي نشره في الصحيفة السعودية الدولية الهامة جداً “الشرق الأوسط”. وعنوان المقال: “يجب ألا نسقط مرة أخرى في شرك القضية”. “القضية” هي بالطبع القضية الفلسطينية، والشرك حسب قوله، هو الخطاب المسيحاني الخطير الذي يتحدث فيه نتنياهو عن “ما فعله العماليق لليهود”، ومن جهة أخرى، تعرض حماس نضالها الفلسطيني على أنه حرب دينية لإنقاذ المسجد الأقصى، وتسمي عمليتها بـ “طوفان الأقصى”.
“الحرب على الوعي هي الأمر الذي يهمنا الآن، إلى جانب المعركة العسكرية”، كتب في المقال. “هذه المعركة ضرورية لتحرير الشباب من الشرك الذي يشوه رؤيتهم للقضية الفلسطينية والنزاع العربي – الإسرائيلي بشكل واسع”. يؤمن قطيش بإمكانية إحداث ضغط لحل سياسي عقب هذه المعركة الوحشية، لكن “هذا الحل يقتضي هزيمة نتنياهو وائتلافه الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، وهزيمة حماس التي أوصل حكمها الفلسطينيين منذ 2006 إلى جهنم التي هم فيها الآن.
قطيش ليس الوحيد الذي حذر من تحول الحرب في غزة إلى حرب دينية. لا توجد دولة عربية واحدة لم تدر أو ما زالت تدير صراعات داخلية، أحياناً عنيفة، ضد التنظيمات الدينية المتطرفة، من بينها تنظيمات إرهابية إسلامية. ولا يوجد أي نظام لم يتهم بأنه “حارب ضد الإسلام”. في السعودية ما زال مدوياً صدى الحدث الذي قامت به جماعة إسلامية متطرفة، وهي جماعة “جهيمان” التي سمت نفسها “الإخوان”، بالسيطرة على الحرم المكي في 1979، وأعلنت عن زعيمها بأنه المهدي، وطلبت إقصاء عائلة سعود عن الحكم.
كانت النتيجة مخيفة. قتل تقريباً 260 شخصاً في عملية التحرير، من بينهم رهائن، والكثير من المتطرفين تم إعدامهم لاحقاً. ولكن على الفور بعد ذلك، أعلن الملك خالد بأن “حل هذا العصيان الديني بسيط: المزيد من التدين”. أصبحت السعودية الدولة العربية الأكثر محافظة، وحصل رجال الدين على صلاحيات كبيرة، وأصبحت شرطة الأخلاق هيئة تنفيذية مخيفة. وفي السنوات الأخيرة بدأ بن سلمان بتكبيل يد المحافظين وتشجيع التغرب.
مصر هي النموذج الحديث لمحاربة التنظيمات الدينية المتطرفة، خاصة بعد أن تولى السيسي الحكم في 2013، وعزل وسجن الرئيس محمد مرسي، رجل الإخوان المسلمين، وأعلن الحركة منظمة إرهابية، وأدار ضدها نضالاً كثيفاً وعنيفاً وما زال – وإن كانت حماس لا تعتبر في السعودية منظمة إرهابية.
في الأردن تم الحفاظ على التعايش المتشكك والمتحفظ بين الإخوان المسلمين والبلاط الملكي، لكن خلافاً لمصر، لا يسمح الأردن بنشاطات حماس على أراضيها. معظم الدول في شمال إفريقيا أدارت طوال سنين صراعاً قاتلاً ودموياً ضد التنظيمات الإسلامية، قبل فترة طويلة من سماع أي أحد باسم “القاعدة” أو “داعش”.
على هذه الخلفية، فإن الحرب في غزة تضع زعماء الدول العربية في ورطة شديدة. لدى حماس صفة مزدوجة، حركة وطنية ودينية. في نشاطاتها الإرهابية ضد إسرائيل هي تمثل النضال الفلسطيني الوطني الذي تؤيده قطاعات كثيرة، دينية وغير دينية. ولكن الراية التي رفعتها حماس – كما تم التعبير عن ذلك في اسم العملية، “طوفان الأقصى”، وفي ميثاق الحركة الذي ينص على أن “الله غايتها والنبي نموذجها والقرآن دستورها؛ فالجهاد هو طريقها والموت في سبيل الله هو أسمى أهدافها” – هذه الراية تجعل الأنظمة العربية تقف على رؤوس الأصابع خوفاً من إمكانية أن تبعث الحرب في غزة الحياة في حركات وتنظيمات متطرفة. وحتى لو لم تتم تصفية هذه الحركات بشكل كامل، فقد تم قمعها بنجاعة. أما الآن فهي فربما تُبعث مجدداً.
هذا تهديد يتحدث عنه الآن الرئيس المصري وملك الأردن وزعماء السعودية مع الرئيس بايدن وكبار الإدارة الأمريكية الذين يديرون المعركة الدبلوماسية. هم يحذرون من أن الكارثة الإنسانية في غزة قد تكون لها تأثيرات سياسية واستراتيجية، ربما تخدم حماس وتنزلق إلى أبعد من غزة بكثير.
إعادة السفيرين الأردني والبحريني، وفيما بعد ربما المغربي، ليست أكثر من تلويح بإصبع مهددة وإسهام إعلامي لتهدئة غضب الجماهير. وأي دولة من هذه الدول لا تتحدث الآن بمفاهيم قطع العلاقات مع إسرائيل. حسب أقوال الرئيس الأمريكي، فإنه حتى السعودية على استعداد للاستمرار في محادثات التطبيع حتى بعد الحرب.
لكن إضافة إلى قلقهم الحقيقي على سلامة سكان غزة والخوف من ردود جماهيرية، لا يريد زعماء الدول العربية الوقوف في وضع قد يطالبهم بوقف الحرب بشكل كامل ما دامت هناك احتمالية محو حماس أو إخراج حكمها في غزة. حسب أقوال مصادر مصرية، فإن الزعماء العرب يقولون للرئيس الأمريكي جو بايدن، بأن هدنات وقف إطلاق نار إنسانية هي صمامات أمان حيوية قد تحافظ على شرعية الحرب ضد حماس، لأنها سترسم حدود الحرب بين معركة شاملة ضد غزة، وبالتالي ضد الفلسطينيين، وبين النضال ضد منظمة إرهابية.
زعماء وجهات رفيعة في الدول العربية عرضت على واشنطن التعامل بجدية كبيرة لتأطير الحرب وتركيزها على الهدف المطلوب تدميره، وعدم تحويلها إلى حرب دينية أو حرب تظهر وكأنها حرب تدار برعاية أمريكية ضد كل الفلسطينيين؛ لأن وجه غزة ليس هو الذي سيتغير بعد الحرب، بل الشرق الأوسط كله قد يحتاج إلى خارطة سياسية جديدة يتم رسمها وفقاً لنتائج الحرب. وحينئذ سيكون للولايات المتحدة دور رئيسي، وستحتاج إلى قدر كبير من الشرعية حتى تلعب هذا الدور. فوقوفها الصريح إلى جانب إسرائيل والمساعدة العسكرية والمالية التي تمنحها لها والدعم السياسي وتأييد بايدن الشخصي لها ستبدو -حسب الزعماء العرب- رافعة قوية على الولايات المتحدة أن تستخدمها لتجنيد تحالف عربي إلى جانبها سيكون ضرورياً من أجل خطوات سياسية مستقبلية.
وقال مصدر دبلوماسي غربي للصحيفة بأن جهات عربية رفيعة، من بينها وزراء خارجية ومستشارون للأمن القومي، يجندون دعماً أوروبياً لوقف إطلاق النار في غزة، ولا تكتفي بطرح ضائقة السكان الشديدة، بل “تتحدث أيضاً بلغة المصالح السياسية. ويقولون لنا بأن التهرب من معالجة مستعجلة للقضية الإنسانية سيبعد أوروبا والولايات المتحدة عن إمكانية الانشغال بالحل السياسي في وقت لاحق”.
وطرح المصدر مثالاً، مشيراً إلى انفصال الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن ساحة سوريا أو لبنان، التي كان يمكنها التأثير فيها بشكل أكبر لو أنها استغلت القناة الإنسانية. ويمكن الاختلاف مع هذا التقدير، لكن لا يمكن تجاهل أن الساحة الإنسانية قد تحولت إلى ساحة تأثير سياسية. روسيا وتركيا وسوريا، تحصل على مكاسب سياسية، ليس فقط في سوريا، بفضل الإمساك بمفتاح خارج الحدود، وهو أن المساعدات الإنسانية لسوريا تمر عن طريقها.
أما في حالة غزة، فمصر تمسك بمفتاح مشابه؛ فحركة إدارته تمليها عليها إسرائيل والولايات المتحدة في هذه الأثناء، حتى اللحظة التي ستجد فيها مصر صعوبة في الوقوف في مواجهة تدفق الجمهور وتفتح المعبر على مصراعيه، على فرض، الذي يبدو صحيحاً، أن واشنطن لن تسمح لإسرائيل بقصف المعبر مرة أخرى كما فعلت في الأيام الأولى للحرب، لأن القضية الإنسانية في حضن أمريكا وهي تلزم بايدن بإيجاد حل لها وبسرعة. وقف النار الإنساني ليس نهاية الحرب، يشرح المحللون العرب. ولكن إضافة إلى مساعدة السكان، هو أمر حيوي حتى تستطيع الأنظمة العربية التي تؤيد أمريكا والتي تعارض حماس، مواجهة ضغوط الجماهير – بعد ذلك تكون شريكة في التسوية السياسية.
تسفي برئيل
هآرتس 3/11/2023