قيادة إسرائيل ترفع مستوى التصريحات بشأن عملية محتملة للجيش الإسرائيلي في رفح. يحدث هذا رغم سلسلة من القيود: اكتظاظ كبير في المدينة، وتوتر مع مصر التي تعارض العملية، وانتقاد أمريكي، وتحرير الجيش الإسرائيلي معظم ألوية الاحتياط من الخدمة، وشهر رمضان الذي سيبدأ بعد شهر تقريباً. العملية العسكرية على الأجندة، لكن يثور شك بسيط بأن من يُسرع النقاش فيها لديه أجندات خاصة.
أول من بدأ الحديث عن هجوم متوقع في رفح هو وزير الدفاع يوآف غالنت. ونشر رئيس الحكومة نتنياهو عقب ذلك بياناً يفيد بأنه أمر الجيش بإعداد خطة للعملية (رئيس الأركان هرتسي هليفي قال أمس في جلسة الحكومة بأن الخطة جاهزة منذ فترة). لنتنياهو عدة اعتبارات، إضافة إلى حقيقة أنه بدون حل في رفح، عسكري أو أي حل آخر، ستتيح الأنفاق لحماس إعادة بناء جزء من قدرتها العسكرية.
التهديد بعملية في جنوب القطاع قد يشكل أداة ضغط على حماس، على أمل أن تتساهل في المفاوضات حول إطلاق سراح المخطوفين. وهو يساعد أيضاً في حرف النقاش الإعلامي عن حقيقة أن الاتصالات تبدو عالقة في هذه الأثناء، ليس فقط بسبب طلبات حماس المتطرفة، بل لأن نتنياهو لا يظهر أي استعداد لتخليص العربة من الوحل.
ومثل قرارات كثيرة اتخذها رئيس الحكومة في الحرب، قد تبدو هذه سياسة تفحصها الاستطلاعات وتستهدف خدمة “القاعدة” الآخذة في التقلص، التي تحب حقيقة أن نتنياهو يتشاجر مع الإدارة الأمريكية. ولا يقل أهمية عن ذلك وجود إعداد لخلق دفع بالغيبة. يتحدث نتنياهو منذ أسابيع عن تحقيق انتصار مطلق على حماس، ورغم تعزيز الضغط على مكان اختباء قادتها فإنه لا دليل حتى الآن على أن إسرائيل تقترب من الهدف الذي وضعته. ولكن إذا أمكن اتهام أحد آخر بعدم تحقيق هذا الوعد (الأمريكيون يضعون العقبات، واليساريون المزعجون، والجنرالات الذين لا يوفرون البضاعة) فلن تكون هي المرة الأولى التي يتصرف فيها نتنياهو بهذه الصورة.
في نهاية الأسبوع الماضي، تم تسريب أحاديث من جلسة الكابينت تبين منها وكأن نتنياهو تفاجأ عندما اكتشف بأن الجيش سرح الأغلبية الساحقة من وحدات الاحتياط التي قاتلت في القطاع. أي عملية في رفح، خصوصاً إذا جرت في موازاة القتال في خان يونس، ستحتاج إلى إعادة تعزيز القوات، مع إعادة استدعاء وحدات من الاحتياط أو إرسال وحدات نظامية من قطاعات أخرى. يفضل الجيش التركيز على معالجة أخرى في مخيمات اللاجئين في وسط القطاع، حيث بقيت كتيبة ونصف قوية نسبياً لحماس، التي لم تهزم بعد.
خطوات إسرائيل تثير عصبية كبيرة في القاهرة. فقد وضعت مصر في السابق عشرات الدبابات شمال شرق سيناء، وأقامت الجدران على طول الحدود مع القطاع في منطقة رفح لمنع تدفق اللاجئين إلى أراضيها جراء هجوم إسرائيلي مستقبلي جنوبي القطاع. ويهدد المصريون أيضاً بتجميد اتفاق السلام مع إسرائيل إذا نفذت عملية في رفح، وأنهم سيدخلون قافلات المساعدات الإنسانية بدون فحص أمني. لا شك أن نظام السيسي يحاول استخدام ما يمتلك من وسائل بغية التوصل إلى إنهاء الحرب بسرعة.
بعد أسبوعين من الفوضى في معبر كرم أبو سالم، بدأ الجيش والشرطة أمس في فرض النظام في المكان. تحدث رئيس الأركان مع المفتش العام للشرطة كوبي شبتاي، وطلب منه التدخل لوقف التشويش على إدخال الشاحنات إلى القطاع. أرسل شبتاي نحو 500 شرطي أخلوا حوالي 40 متظاهراً يمينياً من هناك بدون صعوبة. وكما هو متوقع، هذا الأمر أغضب وزير الأمن الوطني بن غفير، الذي طلب من هليفي التحدث إلا من خلال شبتاي.
زاد نتنياهو من خطه المتحدي أثناء زيارته أمس لوحدة “يهلوم”، حيث أعلن بأن إسرائيل تعمل على نزع السلاح من القطاع بالحفاظ على سيطرتها الأمنية في المنطقة الواقعة غرب نهر الأردن. “بما في ذلك قطاع غزة، ولا بديل لذلك في المستقبل المنظور. نقول ذلك أيضاً للمجتمع الدولي وللرئيس الأمريكي. ستكون هناك دائماً سيطرة أمنية لنا، وإذا تطلب الأمر وجودنا في القطاع سنفعل”.
بكلمات أخرى: نتنياهو لا يرفض فقط أي اتفاق حول اليوم التالي في القطاع، بل يعلن بنيته إبقاء الجيش هناك في المستقبل المنظور. وإذا حكمنا على الأمور كما هي، فهذا الموقف يخالف في أساسه سياسة أمريكا، وبذلك قد يغلق الباب أيضاً أمام جهود التطبيع مع السعودية. السؤال هو: هل ستقرر الإدارة الأمريكية رفع القفازات في هذه المرة؟ أمس، أجرى الرئيس الأمريكي محادثة هاتفية مع نتنياهو، وطلب منه ضمان إخلاء آمن للمدنيين من رفح شرطاً لدخول الجيش الإسرائيلي.
انعطافة رائعة
قد تبدأ الأمور تتضح في القاهرة، حيث يتم استئناف المفاوضات في الغد حول صفقة التبادل بمشاركة ممثلي الولايات المتحدة ومصر وقطر. ستكون البعثة الأمريكية برئاسة رئيس الـ سي.آي.ايه وليام بيرنز. حتى أمس، لم تعلن إسرائيل إذا كانت سترسل بعثة للمحادثات بعد رفض نتنياهو لطلبات حماس.
إن سلوك إسرائيل يثير دهشة الأمريكيين ودول الوساطة. طلبات حماس في الحقيقة متطرفة، كما قال نتنياهو، لكن هذا لم يكن مفاجئاً له. إضافة إلى ذلك، صيغة الصفقة التي تم الاتفاق عليها قبل أسبوعين في باريس (إطلاق سراح المخطوفين والجثامين على ثلاث مراحل مقابل إطلاق سراح الكثير من السجناء الفلسطينيين ووقف طويل لإطلاق النار) تبلورت بمبادرة من إسرائيل، حيث تجند الوسطاء لدفعها قدماً، ليكتشفوا لاحقاً أن نتنياهو غير معني بها وأنه اختار انعطافة مذهلة.
موقف نتنياهو من الصفقة هو استمرار مباشر لتصريحاته حول رفح وسيطرة طويلة على القطاع. ينعطف رئيس الحكومة نحو اليمين ويختار الخط الصقوري في كل القضايا الأساسية. وحسب تصريحاته، لا توجد مصلحة له في صفقة تبادل تضع الائتلاف في خطر يفككه اليمين. لن تنفذ حكومته وقف إطلاق نار لبضعة أشهر في القطاع، الذي سينزلق أيضاً إلى “حزب الله” على الحدود مع لبنان، وسيتم مجدداً طرح أسئلة صعبة مثل لماذا لم ننتصر؟ وما الذي حدث في 7 أكتوبر؟ الصفقة التي لن تخدم بقاءه السياسي المتعلق بشركائه في اليمين المتطرف. بل تخدم رؤساء المعسكر الرسمي، خصوصاً غانتس وآيزنكوت، اللذين عليهما فحص خطواتهماً قريباً.
نقترب من السنوار
مطاردة زعيم حماس في القطاع، يحيى السنوار، غير وهمية: فحسب الكثير من الدلائل، باتت إسرائيل قريبة أكثر من أي وقت مضى من اعتقال أو قتل المخطط رقم واحد. السنوار موجود في منظومة أنفاق محصنة حفرتها حماس تحت خان يونس تقريباً منذ بداية الحرب. وعلى فرض أنه محاط بالمساعدين وحراس وأبناء العائلة وربما “بوليصة تأمين” على شكل عدد من المخطوفين الإسرائيليين، فلا نصدق أن بإمكانه الانتقال من مكان إلى آخر بحرية بدون أن يخلف وراءه آثاراً.
في الأسبوعين الأخيرين، انقطع الاتصال معه، يبدو أن قيادة حماس الخارج تجد صعوبة في بلورة موقف حول المفاوضات. هذا لا يعني أنه مات، بل اختار العمل بسرية أكبر. في هذه الأثناء، يقترب الجيش الإسرائيلي و”الشاباك” منه أكثر.
مؤخراً، عثر على غرف يبدو أن السنوار كان فيها بعد اندلاع الحرب. وعثر أيضاً على كراسة فيها كتابات بخط اليد (آخرها بتاريخ 14 كانون الثاني الماضي). سيطرة الجيش الإسرائيلي على حواسيب تابعة لحماس واختراق شبكة الاتصالات التابعة لحماس، كشفها للاستخبارات الإسرائيلية أكثر، حتى إن الجيش الإسرائيلي فجر الأنفاق الرابطة بين خان يونس ومدن أخرى.
تريد إسرائيل تعزيز الانطباع بأنها قريبة جداً من السنوار. ففي نهاية الأسبوع، زار رئيسا الأركان، و”الشاباك” رونين بار، الأنفاق في خان يونس. وعندما تحدث بار عن الذين يطلبون العفو ويختبئون تحت الأرض، إنما قصد رئيس حماس. في بداية العملية البرية، استخدم الجيش الإسرائيلي قوة كبيرة بمرافقة قصف جوي، وصفت بـ “المطحنة”، التي لم تنجح حماس في الصمود أمامها، وحدث تدمير كبير في شمال القطاع. العملية الآن في خان يونس أكثر تركيزاً وتعتمد على طرق عمل تطورت في الأشهر الأخيرة.
ستتعرض حماس لأضرار كبيرة في قدرتها العسكرية والمدنية لفترة طويلة. ولكن ثمة نقطة ضعف رئيسية في هذه الخطة، وهي الحاجة لبضعة أشهر أخرى، لا لأن الولايات المتحدة ومصر لا تمتلكان الصبر لتحمل ذلك، بل لأنه لا وقت للمخطوفين.
عاموس هرئيل
هآرتس 12/2/2024