عقب قمة استثنائية لقادة حلف شمال الأطلسي في بروكسل، اعتبر بايدن أن العقوبات المستمرة على روسيا، والحفاظ على وحدة الغرب سيحدثان الفارق في الحرب الأوكرانية. لكن إلى متى يمكن للرئيس الأمريكي أن يراهن على وحدة حلف الناتو، إزاء الحرب المشتعلة في أوكرانيا؟ في ظل تعثر العقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا، وارتداد بعضها إلى الدول الأوروبية، مع إصرار الكرملين على دفع الدول المتورطة في معاقبته، أثمان الغاز بالروبل، وتصنيفها في خانة الدول غير الصديقة. وتخوف الأوروبيين من نقص إمدادات الطاقة والغاز، أو ربما وقفها في فصل الشتاء، خاصة مع ارتباك المناخ وتطرفه.
يتّهم الرئيس الأمريكي جو بايدن نظيره الروسي فلاديمير بوتين بالسعي إلى تفكيك حلف شمال الأطلسي، هذا الحلف الذي لم تتغير ديناميات وآليات عمله بشكل كبير منذ تأسيسه، مثلها مثل نطاق تركيزه الرئيس، وهو روسيا. وهذا سبب الأزمة الراهنة في الحلف، بحسب أورليش براند أستاذ العلاقات الدولية.
فالسياق الدولي، ونمط العلاقات، وطبيعة المصالح تخطت الحلف بشكل كبير، كما أن مصالح الدول الأعضاء في الحلف باتت متعارضة أكثر من أي وقت في تاريخه. ومع فرض الدول الأوروبية، إلى جانب الولايات المتحدة، عقوبات غير مسبوقة على روسيا، وزيادة الدعم العسكري لأوكرانيا، فإن من شأن هذه الحرب أن تزيد من تعقيد القدرة المحدودة بالفعل للأوروبيين على لعب دور أمني مهم في أماكن أخرى. ويرى بعض المحللين أن الحرب الحالية هي تأكيد على أن فكرة الميل إلى المحيطين الهندي والهادئ، كانت دائما خيالا لم يعد من الممكن الإبقاء عليه الآن. واعتراف جوزيف بوريل ضمنيا، بفشل سياسة العقوبات الغربية ضد روسيا، في إجبار الأخيرة على الانسحاب من أوكرانيا ووقف عملياتها العسكرية، يعد مفصليا من مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية، الذي اعتبر أنّ قرار وقف استيراد النفط والغاز من روسيا لن يتخذه الاتحاد الأوروبي بالإجماع، وأن الدول الأعضاء بإمكانها أن تقرر ذلك فرادى.. وأنّ «مصير الحرب سيتقرر في ساحة المعركة»، وتأكيده أيضا إن الاتحاد الأوروبي سيواصل تزويد أوكرانيا بالأسلحة والدبابات والطائرات الحربية، لكي تتمكن من الدفاع عن نفسها، لكن الأكثر أهمية اعترافه بأنه من الصعب الاستمرار في هذا الدعم من غير أن تصبح أوروبا طرفا في النزاع. وهذا ما تخشاه واشنطن، على نحو رفضها لمطالب الرئيس الأوكراني المتكررة بفرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا، فالولايات المتحدة حريصة على عدم التورط المباشر في الحرب، وتكتفي بالمشاركة فيها عبر تسليح وتدريب وتمويل القوات الأوكرانية، وهو موقف برلين نفسه التي تسعى جاهدة إلى تفادي مواجهة مباشرة بين الحلف الأطلسي وروسيا بسبب أوكرانيا، وأن لا تكون هناك حرب نووية.
الأزمة الاقتصادية على وقع الحرب الأوكرانية تضرب مختلف مفاصل الاقتصاد العالمي، وتضر بالدول الفقيرة والنامية وحتى المتقدمة
تستورد أوروبا من روسيا 27% من النفط الذي تستهلكه و41% من الغاز و47% من الفحم، وعلى الرغم من ضغوط واشنطن وكييف التي تطالب أوروبا بوقف شراء مصادر الطاقة من روسيا، فإنّ حظر موارد الطاقة الروسية أمر ممكن ومرغوب فيه، وهم يرددون ذلك في الاتحاد الأوروبي، وإن بصوت خافت. فهذا يحتاج إلى زمن، إن توفرت لهم البدائل الممكنة والمستقرة، ويدرك الروس أنّ حظر موارد الطاقة الروسية، الذي فرضته الولايات المتحدة من جانب واحد. وكالعادة، انضمت إليها المملكة المتحدة، أمر صعب التحقق على الأقل في المدى المنظور، وعلى الرغم من المشاورات التي تجريها واشنطن مع حلفائها الأوروبيين، والتي تعني في الواقع قيام الأمريكيين بلي ذراع الحلفاء، كما هو معتاد، ومطالبتهم بالانضمام إلى العقوبات، فإن أوروبا لن تحظر موارد الطاقة الروسية، وقد قالها المستشار الألماني أولاف شولتز صراحة «لا أرى مطلقا أن حظر الغاز سيوقف الحرب، ثانيا: تتحدثون كما لو أننا نكسب المال من هذا الأمر، لكن النقطة المهمة هي أننا نريد تجنب أزمة اقتصادية خطيرة، فقدان ملايين الوظائف، المصانع التي لن تفتح مرة أخرى أبدا، ستكون لذلك عواقب وخيمة على بلدنا وأوروبا بأكملها.. يجب أن أقول، لا يمكننا السماح بذلك». إذن، أوروبا في هذه المرحلة ليس لديها بديل لمصادر الطاقة الروسية، والمؤكد، أنّ هذه الحرب ستعمّق غياب الثقة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، إن لم تكن قد بدأت فعلا بتعميقها، فالأمر يتعلق بإعادة رسم خريطة حقبة ما بعد الحرب الباردة والعقوبات الغربية على روسيا بدأت تخلق أزمات اقتصادية حادة في العديد من الدول الأوروبية والغربية على ضفتي الأطلسي، والتداعيات الكبرى كانت على اقتصادات منطقة اليورو على وجه التحديد، حيث ارتفاع نسب التضخم والغلاء، وشح الموارد والسلع، وغيرها من مظاهر الانكماش الاقتصادي العميقة، التي خلفتها سياسة فرض العقوبات على موسكو، في المقابل تمكن الاقتصاد الروسي لحد معقول من امتصاص صدمة العقوبات والتأقلم مع الواقع الجديد، والروبل يعد في أحسن حالاته مقارنة بما قبل الحرب. هناك انقسام متزايد حول ما يجب القيام به، وإحجام العديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك هنغاريا، عن فرض حظر على إمدادات النفط الروسية يؤكد ذلك، وقد اعتبر هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، أن أوكرانيا قد تضطر على الأرجح إلى تقديم تنازلات إقليمية كجزء من تسوية تفاوضية، وهو ما لم يعجب كثيرين، فمشكلة بايدن هي أن انتصار بوتين وإعادة رسمه للحدود في أوروبا الشرقية، سيثير انتقاد الجمهوريين في الداخل الأمريكي، وقد يؤشر إلى نهاية سياسية بطبيعتها غير مستقرة منذ أن وصل البيت الأبيض، وبالمحصلة، الأزمة الاقتصادية على وقع الحرب الأوكرانية تضرب مختلف مفاصل الاقتصاد العالمي، وتضر بالدول الفقيرة والنامية وحتى المتقدمة، التي لم تحسب ميزانياتها الخاصة بالواردات حصول أزمة كهذه، ناهيك من شح الموارد والارتفاع الجنوني في الأسعار، ولا أفق حول تسوية سلمية تعيد للعالم ولو نسبيا استقراره.
*كاتب تونسي
تماما أخ محي الدين أحمد . دام حضورك وشكرا لك.