هانا هوخ: كولاج امرأة وضعت قدميها على الأرض

إسماعيل كرك
حجم الخط
0

في بدايات القرن العشرين أدى النطاق الواسع لاستخدامات الصور الفوتوغرافية إلى توظيفات إضافية مرتبطة بإعادة التركيب والتقطيع، التثبيت، التكثيف والتنشيط، بغية تطوير ذلك الشكل إلى عمل فني مفاهيمي يتحاور فيه جزءٌ من شظايا الصورة مع جزءٍ من لوحة زيتية أو سكيتش في عمل فني واحد من خلال لصق جزأين أو أكثر، لإيجاد تشكيل فني أطلق عليه كل من الفنانَيْن بابلو بيكاسو وجورج براك تسمية كولاج بعد اشتقاقه من مصدر الفعل الفرنسي Coller أي «لصق». انسحب هذا المفهوم على أشكال الفن المختلفة، ففي الموسيقى مثلاً بُنيَتْ الإضافات الخارجية في تسلسل الأصوات الغريبة، فاستُخدٍمتْ وسائل أخرى منتجة للصوت تسمح بالارتجال خارج الإيقاعات الكلاسيكية، كما استُخدِمَ الكولاج أيضاً في الكوربوغرافيا «كتابة الرقص» ليتم تقديم غرائبية الكولاجات الراقصة في عرض الباليه الذي قُدِّمَ على مسرح برودواي للروسي الأمريكي جورج بالانشين سنة 1936وحمل عنوان «على رؤوس أصابعكَ» من خلال تقديم رؤية حداثية غيَّرت تشكيلات الباليه عبر تشكيلات أجساد ترقص على رؤوس الأصابع، فَحوَّل الباليه إلى بهلوانية وتمثيل صامت، بل وتأثيرات عائمة قادمة من عوالم أخرى. إبان الحرب العالمية الأولى وتحديداً سنة 1912 كان الفن الحديث في برلين على موعد مع شابة ألمانية نحيلة ومتمردة قادمة من مُحافظة غوتا – وِلاية تورينغن – جمهورية أَلمَانيا الاِتّحاديّة تدعى هانا تيريز يوهان هوخ، أنهت دراستها للتو في مدرسة الفنون التطبيقية باختصاص تصميم الزجاج، أدركت مبكراً أن هناك شبحا يطارد برلين، شبحٌ غريب يُحدِّقُ من ألواح خشب السقوف ويُطِلُّ من الإطارات على الجدران ليجلس على قاعدة ويصرخ من المُلصقات، يَعِدُ بثورة ويشكل خطراً على المزيفين، شبحٌ «حقيقي» يجلس على كرسيه يفضح الخطابات القومية وينبس في الشوارع: «كُنْ على عكس الرائحة الكريهة والنفاق الرأسمالي، كُنْ ضد هدوء اللوحة الانطباعية، ودع الروح تتنفس في تمثيلات الواقع، سجِّل اسمكَ خصماً راديكالياً للاستغلال ومُت على كرسيكَ!».
بين عامي 1912 – 1926 وعدت هانا بثورة وبدأت العمل بتركيز مفاهيمي مدهش على «المرأة الجديدة» فانطلقت من «ثكنة» المطبخ من خلال قصتها المضحكة der Maler «الرسام» للحد من الغمز الذكوري الخبيث فكتبت كولاجاً خطابياً قصيراً بداية العشرينيات ضبطت به نغمة تسليع المرأة الذي شاع بعد هزيمة الإنسان في الحرب العالمية الأولى، وعارض الأذواق التقليدية وأشكال الفن من خلال معرضها الفني الذي أقيم بالقرب من صَخَب ساحة Potsdamer Platz وسط برلين، والذي تم تحويله بعدها إلى معرض دادا الوطني. شرعت هانا برفقة شيوعيي الدادائية باحتضان ضجيج المدينة المتناثرة التي كانت تشهد زيادةً هائلة في أعداد الصور، الأمر الذي دفع معرض دادا الدولي الأول إلى الاحتفال بانتصار «كُلية القص واللصق» على استخدام الفرشاة والطلاء، حيث أعلن الدادائيون أنهم سيحملون مقصاتهم لقص أجزاء صور من كل ما تطلَّبَهُ ذلك الوقت من التمثيلات الفوتوغرافية وذلك لإغناء «كلية القص واللصق» قرأ الدادائيون أسماءهم وقدموا أنفسهم على أنهم من برلين، وكان من بينهم كل من جان آرب، أوتو ديكس، ماكس إرنست وراؤول هاوسمان الذي كان برفقة عشيقته هانا هوخ الشابة التي فاجأت الجميع بلَكمَتَها الكبيرة بعدما قصَّتْ أجزاءَ مهمةً تنتمي للعديد من أعمال الفن الفوتوغرافي الذكوري «الواثق» وعَلّقتْ كولاجات أعلنت للمرة الأولى شغبها الجريء في بيئة يهيمن عليها الذكور.
يصف الناقد أدولف بيهني ما فعلته هانا بأنه: «كان تحطيماً للأعمال الفوتوغرافية المتميزة نظراً لِخلوِّها من عيوب راهنت عليها الأنا الذكورية». لم تكن كولاجات «هانا برلين» الجديدة مجرد حركة تطوير فنية بل تكريساً لاستكشاف لاذع، مؤثر وجميل لاحتمالات وفضاءات الكولاج التي ستستمر عصيَّةً على الانهيار وتشكل حدوداً فكريةً لإرث فني دائم راهن عليه الفن حتى اليوم.
في كولاج «قُصّي بسكين المطبخ» والذي أنجزته هانا بين عامي 1919- 1920 وتزامن مع بداية حقبة «جمهورية فايمار الثقافية» في ألمانيا والتي امتدت حتى عام 1933 وكما مثَّلَ الكولاج آنف الذِكر تطلعات المرأة الحبيسة بين حربين، ارتبط بشكل وثيق بجيل الشباب وأضاف بُعداً حداثياً آخر إلى قصة «الرسام» الساخرة.
في تلك الفترة كان المطبخ هو المجال الحيوي للمرأة /الزوجة، لكن كولاج هانا التكثيفي فتح الباب على تلميحات لعناوين في الساحة الداخلية الحميمة أيضاً كما ذكر ذلك مؤرخ الفن جاراماي بولتشيك في معرض حديثه عن العلاقة الحميمة بين كل من هانا والباحثة الهولندية المتخصصة باللسانيات ماتيلدا بروغمان والتي استمرت لمدة تسع سنوات وجاءت كَرَدَّة فعل بعد انفصالها عن عشيقها الأول الفنان الألماني راؤول هاوسمان سنة 1922 بعد نقاشات مطولة معه حول المساواة بين الجنسين ساخرةً من الغرور الذكوري.
استخدمت هانا في إنجازها تركيبات صور مُمَنتَجة وألوانا مائية عبّرت عن حضور المرأة في جيل شهد النساء يأخذن مكانهن حديثاً في الحياة العامة في مجالات المسرح، الرقص، السياسة، الرياضة، الفن، الأدب، الطب والقانون وحتى في الكنيسة. إلا أنها وفي سنة 1935 انفصلت عن ماتيلدا بروغمان لتقيم علاقة أخرى مع رجل الأعمال وعازف البيانو كيرت ماتياس وتتزوجه بعد ثلاث سنوات لتستمر زوجةَ حبرِ على ورق حتى 1944 وذلك لتحمي نفسها من بطش النازيين الذين لا يسمحون بأية علاقة بين امرأتين وهو ما انعكس على المشهد العام الذي اتسم بالاضطراب بعد صعود النازية.
بتاريخ 11/09/1937 كتبت هانا هوخ في يومياتها تصف زيارتها إلى معرض الفن (المتدهور): «بعد ظهر اليوم زرتُ معرض الفن المتدهور فشاهدتُ أهم الأعمال التي أُنجزت في السنوات الأخيرة، شاهدتُ جميع ممثلي المتاحف وممثلي جامعي اللوحات وقد أرسلوا لوحاتهم هنا بعد الاضطهاد العام، لقد أدهشني الجمهور بانضباطه! هناك الكثير من الوجوه المُغلَقة ويمكنكَ رؤية المعارَضة في الكثير منها».
بسبب خلفيتها السياسية الشيوعية عانت هانا الكثير من ملاحقات أجهزة الغستابو مع العديد من الفنانين الشيوعيين وهو ما بدا واضحاً في عمليها «ثعبان الماء» 1936 و «الحادث» 1937 أما بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية فقد خَفّضتْ هانا من نبرتها، فأنجزت سنة 1940عمليها «لا تضع قدميك على الأرض» و«النشوة المَجَرية».
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تنفست كولاجات هانا من جديد بأعمالها المذهلة «الضوء يبحر» 1946 «تعال لنبني مع فيردي» 1948 و«رحلة فضائية» 1956. أما في الستينيات فتميزت أعمالها بألوانها الفرِحة من خلال عمليها «كل أحلامنا» و«حول فم أحمر». بينما حمل كولاجها الأخير 1973 عنواناً لافتاً «بورتريه حياتي» وكان كولاجاً لخص حياتها منذ طفولتها حتى شيخوختها.
خارج الرؤية الانطباعية لكن داخل قلبها، فوق السطر لكن تحت الإطار، كانت هانا عازمةً على إعطاء كل شيء بالكامل وتلوين العالم وفقاً لمسيرة فنية امتدت لأكثر من ستين عاماً بحضورها القوي في قلب الحدث، واقفةً في العالم الحقيقي أمام عدستها الكبيرة.
قبل وفاتها التقى بها الناقد إدوارد روديتي وسألها عن تحديد هوية لأسلوبها فأجابت: «تميز أسلوبي بالحماس خصوصاً عندما بنيتُ صداقاتي في نيويورك وكما قلتُ في وقت سابق، بدأتُ بتجربة اللون الأسود المُجرَّد والتركيبات البيضاء في وقت مبكر من عام 1915 ولكنني كنت ما أزال أجرب في هذا المجال بشكل طفيف بطريقة مختلفة، وفي وقت متأخر من عام 1926 حصلتُ على نسخة من قطعة زينة مزخرفة لأرنست همنغواي بالأبيض والأسود، وعلى مراجعة مختصرة لقصة مبتذلة في عدد قديم في صحيفة أمريكية لاستخدامها في الكولاج». وعندما تساءل روديتي عن الكاميرا كشاهد موضوعي وجدير بالثقة أكثر من كائن بشري، معللاً ذلك بأن الكاميرا تعطينا أحياناً رؤىً أو هَلوَسة لكنها مقبولة بشكل عام، طلب منها الاعتراف بمحاولتها تزوير شهادة الكاميرا عمداً في الكولاج أجابته هوخ: «نعم، كان هدفي هو دمج كائنات من عالم الآلات والصناعة في عالم الفن، فمن خلال المُلصقات المطبعية صَمّمتُ المونتاج لتحقيق تأثيرات مماثلة من خلال فرض أشياء أُنتِجتْ باليد، بينما تبدو وكأنها مؤلفة بالكامل بواسطة آلة، وذلك في تركيبةٍ خيالية اعتدتُ تحضيرها مع عناصر مستعارة من الكتب المطبوعة، الصحف، المُلصقات والمنشورات في ترتيب جديد لا يمكن لآلة أن تؤلفه». بعد وفاتها في 31 أيار/مايو 1978 في منزلها في منطقة هايليغينسيه قرب برلين، تركت هانا كولاجاتها تدافع عن تجاربها المفتوحة والتي لم تنتهِ بعد من خلال تصاميم كولاجاتها التي ما تزال تصرخ عالياً لتضع المرأة في مركز الكولاج، مستعينةً بوردة خرجت من غليون ماكس إرنست، ببدلة رَجلٍ آلي متحذلق تزوَّجَهُ جورج غروز ليبتسم للحياة، وبراقصة إنكليزية تُخرج ضحكتها الساخرة من جيوب زمنٍ دائماً ما يحاول نسخ حربه القومية المقدسة في كل قرن.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية