طوّر القاص الأوروبي أساليبه، وكان لحركة الترجمة وتحقيق المخطوطات وانتشار الطباعة والتعليم، دور كبير في هذا التطوير، بل هو يسّر ـ كما يقول طه حسين – للناس التصرف في أسلوب الكتّاب بعد قياس ترجمة بأخرى، أو سوّغ لهم أن يدخلوا عبارات ترجمة أخر.
وغدت القصة فنا مهما في الآداب الأوروبية، كالأدب الإسباني والإيطالي والفرنسي والروسي والإنكليزي.. وهذا أمر طبيعي؛ فالسرد فن إنساني وموضوعاته عامة لا تخصيص فيها لشعب أو أمة، بل هي قوة التعاون والتضامن ما بين الشعوب والأجيال في الشرق والغرب على اختلافها، وكانت الحضارة الإسلامية حلقة الوصل التي أدامت للقديم قوة حضوره، وأضافت للمتحقق جديدا، وحمّلته أبعادا خاصة بها استمر في التطور.
وإذ بقيت قاعدة السرد القديم ألا وهي ( اللاواقعية) كما هي لم تتغير، فإن ذلك لم يمنع القاص الأوروبي في حدود القرنين السابع عشر والثامن عشر من السعي التدريجي إلى ادخال بعض التحويرات على تقليد أو أكثر، فكان من ناحية الموضوعات يركز على قصص الحب والمغامرات العاطفية وحكايات الساحرات والعفاريت. وكان من ناحية الشكل يمد في طول القصة أكثر ويعدد في الأحداث والشخصيات، وقد يجمع فيها أكثر من موضوع واحد ثم يركز على واحد منها، أو يضيف إليه جديدا.
ويعد الدنماركي هانس كريستان أندرسن (1805 ـ 1875) واحدا من كتّاب القصة الذين أفادوا من القاعدة اللاواقعية للسرد القديم عامة، ومن تقليد الخيالية خاصة، فبنى قصصه التي كتبها خلال الأعوام 1835 ــ 1872 على طريقة الحكاية الشعبية في توظيف شخصيات لا وجود لها على أرض الواقع كالسحرة والعفاريت والجان وغيرها، يقول المستعرب غاسموسن (يمكن مقارنة أدب هـ. ك. أندرسن في الأدب العربي بكتاب ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة مضافا إليهما وهج شعر الصحراء العربية في وصفه عالي الحساسية للطبيعة ومقامات الحريري) وما نراه هو أن الأمر ليس مجرد مقارنة، إنما هو أقلمة فنية لتقاليد السرد العربي القديم على مختلف المستويات، أي كعناصر ووظائف وأفكار وموضوعات، ومن دلائل الأقلمة:
1 ـ اللاواقعية التي تتحول بالتحبيك الى واقعية، كما في حكاية (القداحة) وبطلها جندي، تطلب منه العجوز الساحرة أن ينزل من خلال ممر إلى قاع الشجرة، كي يجلب قداحة موضوعة داخل صندوق يحرسه كلب له عينان كبيرتان وتشترط عليه ألا يستعملها، لكنه حين عاد عرف غرض العجوز الساحرة من القداحة، فلم يعطها إياها، وحين عارضته استل سيفه وقطع رأسها. وأول أمر قام به هو التوجه نحو المدينة وشراء ملابس جديدة ثم سخر القداحة لتحقيق كل ما يريد من جاه وثراء. ويتغير مجرى السرد وتتعقد الحبكة، حين يعرف أن في المدينة ملكا له ابنة أميرة حسناء تعيش في قصر كبير من النحاس، وبأبراج كثيرة وأن (ليس هناك من يجرؤ على الدخول إليها غير الملك، الذي تنبأ بأنها ستتزوج من مجرد جندي عادي وهذا ما لا يستسيغه الملك). وهنا يقرر الجندي استعمال القداحة من أجل الظفر بحب الأميرة الجميلة، ويستعمل القداحة ويخطفها ثم يعود بها إلى القصر فتظن هي أنها في حلم.
2 ـ السلطة التأليفية التي بها يكون المؤلف ذاتا تفتتن بنفسها فتكتب سيرتها على نية وجود قصد تأليفي Authorial Intent المفهوم الذي وضعه براين ريتشاردسون، ورأى أن دانيال ديفو أول من استعمله. وحاول فيليب لوجون أن يبين الاختلافات بين السيرة الذاتية وخيال الشخص الأول. وهو ما سيسير عليه بعض كتّاب القرن التاسع عشر، ومن بعدها تأخذ السلطة التأليفية بالتضعضع إلى أن تتهشم بالواقعية الموضوعية. وتعمل بعض الروايات ما بعد الحداثية على استعادة تلك السلطة، مما سماه ريتشاردسون إعادة ولادة المؤلف The Re-birth of the Author .
3 ـ التكرار الذي به يعيد السارد حكاية القداحة، في إنجاز أفعال مستحيلة ومنها خطف الأميرة من القصر ليلا والعودة بها صباحا. ويتكرر القول (وفي الليلة الآتية فعل الشيء نفسه) وهذا التكرار هو ميتا لغةMeta Language كما يسميه منظرو السرد ما بعد الكلاسيكي، أي لغة واصفة للغة التي يتحدث بها السارد، ما يجعل الحكاية تروي نفسها ضمنيا وتقترح ميك بال تسمية الأولى بالحكاية الأصل heyperecit ، التي هي داخلية والثانية اللاحكاية metarecit وهي خارجية. ورفضت شلوميت ريمون هذا التوصيف للتكرار، بسبب ما فيه من لبس بين مستويين مختلفين مستوى ابتدائي وآخر ضمني.
4 ـ الموثوقية التي بها تنفرج الحبكة وقد فكرت الملكة والدة الأميرة بطريقة بها تعرف ما يحصل لابنتها، وإلى أين تذهب ليلا وبالفعل تعرف ذلك. ويتم القبض على الجندي متلبسا ويرمى به في الحبس.
5 ـ المصادفة التي بها تكون الخاتمة سعيدة، حين همَّ الجلاد بربط الحبل حول عنق الجندي وطلب منه أن يقول ما أمنيته للمرة الأخيرة، قال الجندي: استعمال القداحة. وما أن استعملها حتى جاء الكلب وساعده، فنجا من المشنقة ثم أمسك الكلب بالملك والملكة ورمى بهما خارجا فصاح الناس أيها الجندي العزيز: (نريدك ملكا لنا وأن تتزوج الأميرة الحسناء).
وتجدر الإشارة إلى أن جوناثان سويفت أسبق من هندرسن في هذا التوظيف للاواقعية، لكنه اتخذ من الرحلة أسلوبا لبناء الحكاية الشعبية، في قصته (رحلات كليبر) وفيها البطل السارد يقع في قبضة أقزام، لم يؤذوه، بل سعوا إلى خدمته (اعترف بأنهم بينما يسيرون جيئة وذهابا فوق جسدي راودتني نفسي أن أقبض على أول أربعين أو خمسين تطولهم يدي وأخبطهم بالأرض حتى تتكسر عظامهم، لكنني تذكرت الألم الذي أصابني منهم .. وتذكرت وعد الشرف الذي قطعته لهم). وسويفت أكثر من هندرسن تركيزا على القارئ، ربما لأنه أقرب إلى تلك المرحلة التي كانت فيها تقاليد السرد القديم على حالها، لم يدخل الكاتب الأوروبي عليها أي تحوير، أي أن الواقعية لم تأخذ مداها في السرد الأوروبي بعد. ولا يخفى ما في التركيز على القارئ من أهمية في توكيد موثوقية السرد، يقول السارد: (قبل أن أبدأ بشرح كيفية مغادرتي لهذه المملكة، قد يكون مناسبا أن أطلع القارئ على مؤامرة سرية كانت تحاك ضدي منذ شهرين.. كنت طيلة حياتي وحتى الآن غريبا على القصور الملكية) أو قوله: (لست أثقل على القارئ بأوصاف أخرى من هذا النوع واحتفظ بها لكتاب آخر يكاد يكون الآن جاهزا للطباعة وهو يحوي وصفا عاما لهذه الإمبراطورية منذ إنشائها أول مرة، مرورا بسلسلة من الأمراء.. غرضي الرئيس في الوقت الحاضر، هو أن أروي فقط تلك الأحداث والأمور التي جرت لي، أو لجمهور الأقزام خلال إقامتي التي امتدت تسعة شهور في تلك الإمبراطورية).
وصحيح أن موضوع الرحلة أمر عرفته ملحمة جلجامش والملاحم والمسرحيات التراجيدية اليونانية، ثم الرومانية على يد فرجيل وهوراس وأوفيد في عصر الإمبراطور أوغسطين 27 ق. م إلى 14م، بيد أن هناك جذورا أسبق لموضوع الرحلة، تعود أزمانها إلى الحكايات الخرافية التي عرفتها حضارات العالم القديم. وعملت القصة العربية على ترسيخ قواعد سردها التي صارت بمرور الزمن تقاليد ناجزة، وبسببها نشأت قوالب المقامة والرحلة والقصة الفلسفية والحكاية الشعبية وغيرها، التي انتقل تأثيرها بواسطة الترجمة إلى الأدب الإسباني ومنه إلى الآداب الأوروبية. وهو ما تنكرت له نظرية الرواية عند هنري جيمس ولوكاش ولوبوك في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وفسرته النظرية السردية بمصطلحي showing /العرض وtelling /القول.
كاتبة عراقية