هبوط البياض

كلّما أهربُ من الوقتِ،
من قلقِ الساعاتِ العجولةِ،
من سنواتي الباردة ..
تهبطُ سيدةُ البياضِ، تلملمُني كالشظايا، تغسلُ سنواتي بالتيزاب، وتعلّمها العريَّ والهذيان..
منذ عشرين عاما وأنا اشبهُ العدّائين،
أركضُ خلفَ أسئلتي،
خلفَ البياضِ/ بياضِها الهاربِ مثل اللصوص.
منذ سنواتٍ ساخنةٍ،
وأنا أعلّقُ البردَ على جسدي،
أُفتّشُ عن جمرةِ فمِها،
عن عنقِها المشبوكِ باللهيب،
عن الرضابِ المسكون بشهوةِ الطيران،
عن
عن…
الفراغُ وحدُهُ يبادلني الرائحةَ،
والقميصُ الأبيضُ
يترك أزرارَه للريحِ،
كلاهما يدركان قسوةَ النداءِ،
إذ ينفرُ الأبيضُ العسليُّ، مثل طفلٍ مشاغبٍ،
يبعثرُ التفاصيلَ والخرائطَ،
وأوراق الطاولة…

2

لأني أكرهُ الفراغَ، أرفعُ يدي لاصطيادِ الهواء، والاحتجاج على الغيابِ،
غيابها القديم،
غياب الرائحةِ والقميصِ والرضابِ والهذيانِ
والحُمّى،
والوشوشاتِ المُدوّخة.
الفراغُ، أقصد فراغَ التفاصيل،
الكرسيَ، الوسادةَ، كوبَ الشاي، دخانَ الأرجيلة،
بقايا منديلٍ أحمر،
أو بقاياي على الهواء..

3

عند هبوطِ البياض، أتحسسُ ذاكرةَ الألوان،
استعاراتِ اللغة،
جغرافيا الجسد.
رائحةَ البللِ في أصابعها وفي فمها،
إذ يوهماني بالغرقِ، بشغفِ الموج، بأغاني السفّانة..
عند هبوطها،
تنكسرُ علبةُ الألوانِ،
فتتسعُ اللوحةُ، وأضيق أنا،
كلانا ضدان، مجنونان، نرمم الوقتَ بالسهو،
حين ينسلُّ فمُها الاحمرُ،
مثل مجنونٍ،
ابدأ طقوسَ الاعترافِ، والصحوِ،
أبعثرني على الجدارِ، والطاولةِ،
وأترك أصابعي لاصطياد الهواء.
عند هبوطِ بياضِها، ناصعا، لامعا،
أكره سيرةَ الفاتحين، والمغنين، وأصحاب الستربتيس،
أكره سيرةَ كولمبس،
وذاكرة وتني هيوستن، وأخطاءً الأباطرةِ العراة..
لأشدو لها وحدي، حيث احتفي بالبياض، البياض الذي يُعقّم سوادي بالديتول، أو ماءِ فمها،
أو ربما أحتفي بالفراغِ،
فراغِها العالقِ بأخطائي،
بسوادِ الحروبِ،
بسيرةِ الوقتِ الباردِ دون جمرها،
والسنواتِ التي تشبه علبةَ الألوانِ تماما..

٭ كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية