إن السر هو الذي يضفي على صاحبه المهابة والقداسة، وعندما يُهتك السر يصبح ذلك الإنسان عارياً من كل شيء، فتجده لا يحظى بالاحترام ولا بالحب لأنه جعل كل شيء ظاهراً لكل من هب ودب، فالإنسانُ الغامضُ وهو الذي يجعل مساحة كبيرة من حياته معبأة بالأسرار تجده مُهاباً من طرف النّاس، بعكس ذلك الشخص الذي يُذيع كل شيء في حياته للنّاس فقيمته تقل، ويصبح عرضة للسخرية واللا احترام، فالفتاة التونسية مثلا التي مارست احتجاجاً على سياسة بلدها بإظهار صدرها قد تبرعت بأحسن ما تملك لكل النّاس، حيث هتكت قداسة جسدها، فهذا السلوك مُهين وغير مقبول حتى في الدول التي قطعت أشواطاً في تنحية ما هو ديني وسماوي، فالغرب العلماني ينظر إلى مثل هذه السلوكات بأنها منافية للطبيعة الإنسانية، فتجده ينفر منها، والدليل على ذلك أن المستعدّين للقيام بهذه الأفعال مازالوا أقلية، وتسليط الضوء من طرف الإعلام على مثل هذا السلوك لا يعدو كونه شاذاً. المبرر الذي تقدمه الإدارة الأمريكية في تبرير التنصت على مكالمات مواطنيها هو دفع الخطر المحدق بهم من طرف الإرهابيين والمتطرفين، لأن التراخي ‘من طرفنا’ هو الذي جرَّأ أمثال أسامة بن لادن على أمريكا في 11/9، فالتنصت ومراقبة الهواتف والإنترنت هو عمل استباقي، الغاية منه دفع الخطر المحتمل لكي لا يعاد سيناريو 11/9 جديد، جاء هذا التبرير مرة أخرى بعدما كشف إدوارد سنودن متعاقد وكالة الأمن القومي عن تسريبات فحواها برامج المراقبة التي تقوم بها الوكالة على المواطنين الأمريكيين، وبرر تسريبه لهذه النشاط بأنّه شعر بتأنيب الضمير، ورفض أن تمس خصوصيات النّاس بأذى حيث قال: ‘أنا على استعداد للتضحية، لأنني لن أسمح كصاحب ضمير حي للحكومة الأميركية أن تدمر الخصوصية، وحرية الإنترنت والحريات الأساسية ‘، فهذا المتعامل مع الوكالة يرفض دفع الخطر المحتمل، بالتجسس على الناس وإذاعة أسرارهم، لأن في مثل هذا الأمر تدميراً لخصوصية الناس، وتعدّياً على حرياتهم الخاصة. نعم، من واجبات الإدارة الأمريكية أن تخترع السُبل التي من شأنها أن تحمي مواطنيها من الأخطار والتهديدات، ولكن ليس من حقها أن تتجسس عليهم وتتبع أسرارهم، لأن هذا الأمر ينافي مبادئ الديمقراطية الحقة، التي تهدف إلى احترام حريات الناس وخصوصيتهم، وإلا ما الفرق بين هذه الأعمال وعمل الأخ الأكبر في رواية 1984 الذي كان يتتبع خطوات مواطنيه في يقظتهم ونومهم، في أكلهم وشربهم، في بيوتهم ومؤسسات عملهم، وفي أحلامهم وتحديد رغباتهم، هذه الرواية التي كتبها الروائي البريطاني ‘جورج أورويل’، والتي تعتبر رؤية متقدمة حول تطور آليات الاستبداد وأساليب تدجين الإنسان بغية التحكم فيه والسيطرة عليه، وذلك باستعمال التطور التكنولوجي والعلمي، في هذه الرواية نقد لممارسات الدولة الشمولية التي تتدخل في كل كبيرة وصغيرة في حياة النّاس، حيث أسقطها العديد من النقاد والقرّاء على الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية، فكان الطرف الآخر – أي أمريكا وحلفاؤها – يفتخر بمساحة الحريات، ويتباهى باحترامه للخصوصيات، أتراه بعد ذلك يعيد إنتاج الممارسات نفسها، والسلوكات عينها، والسؤال الذي يطرح هل نحن في عصر ما بعد الحرية، وفي عصر ما بعد الديمقراطية؟ قد يكون الخطر الذي تَتَبّعُه الحكومة الأمريكية حقيقاً، وقد يكون محتملا، وقد يكون موهوماً، ولعل هذا الخطر هو أقرب إلى الاحتمال الثالث، لأن التاريخ يعلمنا أن صناعة أي عدو أو خطر يخفي وراءه أهدافاً إستراتيجية، وقد يكون هذا الخطر مجرد تضخيم فقط، لا يرقى أن يكون خطراً، ولا أن يكون عدواً، فالمفكر الأمريكي ‘نعوم تشومسكي’ يقرر في كتابه ‘إعاقة الديمقراطية’ أن الخطر الذي كان يُسوّق له الإعلام الغربي عن الاتحاد السوفياتي معظمه كان مضخماً كما تقول وثائق المخابرات المركزية، والغاية من ذلك هو توجيه أنظار الشعب الأمريكي إلى هذا العدو، وتصويره بأنّه يريد احتلال أرضكم والقضاء على حضارتكم وتبديل نمط حياتكم ومعيشتكم، لذلك لا نستبعد أن تكون القاعدة مجرد وهم، وهي قبل ذلك مجرد صناعة أمريكية ودولية مخابراتية، الغاية منها هو تخويف الشعب وإرعابه حتى تسهل السيطرة عليه. ربما يكون السبب الرئيس من الرقابة على الهواتف والإنترنت هو استشعار السلطة الخطر من الوعي الذي بدأ يتشـــــكل عند المواطن الأمريكي، حيث أصبح الخطاب الذي يسوّقه الإعلام الأمريكـــي لا يقنع الكثير من المواطنين، وأن مساحة الرفض لســياسات الإدارة الأمريكية تتزايد وتتسع، فخطاب مثل ‘أمريكا إمبراطورية’ و’أمريكا مسيطرة على العالم ‘أصبح لا يستهوي إلا أصحاب المال والسياسة، أما المواطن البسيط فهمّه الوحيد هو توافر أسباب العيش من وظيفة محترمة وبيت يأوي إليه، وكأني به يقول لحكومته إنّه سئم السياسات التوسعية والحروب الخارجية لأنها لم تُحسَّن من مستوى معيشته، بل أثقلت كاهله بالضرائب والضيق في العيش. سعدون يخلف الجزائر