هجاء القارئ

حجم الخط
0

علينا أن نتميز بقدر كبير من الاكتراث حين نسمع نيتشه، غير المكترث يقول: (إنني أبغض كل قارئ كسول). نيتشه، لم يكن يمزح، وهو ليس من الذين يجدون الوقت للمزاح، أو يحسنوا ذلك. غير أن نيتشه سيرأف، في هذه الكلمة الصارمة، بادية الغضب، بقارئٍ يتوجب عليه أن ينتبه لما يفعل، قبل أن يموت.
قارئٌ، لن يذهب وحده إلى أي مكان، فيما يقرأ، وهو يتعثّر في لعثمته، متخبطاً بخريطة الأبجدية الأولى.
فليس لدى نيتشه الوقت لتعليم الأغبياء، أو إيقاظ البله وقاصري الإدراك ومتورمي الشعور بالاكتمال. فأي قارئ كسول يمكن أن يكترث به نيتشه، فيما يصوغ طريقه الصارمة نحو الحقيقة؟
٭ ٭ ٭
على الأرجح أن نيتشه لا يعني القارئ العابر، العادي، طالب النزهة في عالم الفكر والإبداع الإنساني. على الأرجح، أيضا، أنه يريد قارئا مستعداً لأن يتحوّل إلى آلة إنتاج الطاقة الجديدة في الحضارة الإنسانية. وعلى الأرجح، كذلك، أن نيتشه يدرك بأن غضبه المنصبّ على القارئ الكسول هو غضبٌ، يتوجب أن يُغضبَ بدوره قارئاً يكتشف، للمرة الأولى، أنه لا يزال يتعثّر في كسله، رغم الادعاء الهائل الذي يطرحه على الناس، كلما شرع في الكلام عن الوعي والمعرفة. عند نيتشه، المعرفة هي «العمل الصارم في الحياة» حيث النظرية هي الممارسة. والكسل سوف يتمثّل دائما بمن يزعم العمل، فيما يتخبّط في شرائك النظريات.
لذلك فإن الكسل ليس هو الجلوس عن التفكير، لكنه التردد في الإقدام على العمل. فالنمور، عند نيتشه، هي التي تقفز من تنور التجربة، وهي تطلق ضحكاتها الجهنمية، مجلوّة بالجمر واللهب والشظايا.
٭ ٭ ٭
ونحن عندما نتأمل، في قصيدة الحياة، لابد لنا أن نتلمس حركة نيتشه الكامنة في تلافيف هذه القصيدة، حيث النظر الصارم قرين العمل الحازم. ولكي يتحول هذا العمل إلى حياتنا، يتوجب أن نكفّ عن الادعاء الفارغ، وأن نتخلّص، متطهرين، من الكسل في الجانبين: كسل الذهن، وكسل المخيلة.
فالإنسان لا يستطيع أن يسعى إلى العمل الجديد من غير أن يكون مدججاً بالمخيلة الحرة النشيطة.
٭ ٭ ٭
ترى إلى أي حد نستطيع الزعم بأن ثمة قارئ يستعد، الآن، لأن يقرأ النص الجديد، فكراً وفناً، صادراً عن هاتين الشرفتين الحرتين في الفكر والفن؟ ففي هذه الحرية ما يسعف أحلامنا، كلما حلمنا، بالذهاب الحر إلى المستقبل.
٭ ٭ ٭
في مشهد القارئ العربي، لا يزال المرء يحتاج لأسطورة تجعله قادراً على التريث، تسع مرات، قبل أن يطلق أحكامه الجائرة، مسبقاً، على نصٍ يراه لأول مرة، ويقرأه مرة واحدة، ولا يريد لأحد أن يتحامل عليه، ويصفه بالكسل.
في هذا المشهد بالذات، سوف لن يتسنى لنيتشه الاستفادة من الدرجة القصوى من الغضب، والبغض والضغينة، ففي هذه الحالة سيكون الأمر مستفحلاً، إلى الحد الذي يستعصي على التفاهم، مع نصٍ شاهقٍ ومخيلة عاطلة، وذهن في الحضيض.
٭ ٭ ٭
هل يريد نيتشه أن يسمع القارئ يقول للنص: (أنت، أيها الغارف روحي بعمق، أيها المخترق حياتي كعاصفة أيها اللامفهوم، يا قريبي أريد معرفتك وخدمتك).
الأرجح أنه كان يقول ذلك كقارئ نشيط العقل والمخيلة.

شاعر بحريني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية