الجزائر- عباس ميموني:
احتفلت الجزائر الأحد، الموافق 20 أغسطس/ آب الجاري، بـ”اليوم الوطني للمجاهد” تخليدا لذكرى هجمات الشمال القسنطيني عام 1955 وانعقاد مؤتمر الصومام بمدينة بجاية في العام التالي، وهما محطتان مفصليتان في مسار الثورة التحريرية (1954-1962) من الاستعمار الفرنسي، غير أن تأثيرات هذه الهجمات جعلتها بمثابة الانطلاقة الثانية للثورة.
تلك العمليات نفذها مجاهدون مدعومين بمواطنين، ضد الاستعمار الفرنسي (1830-1962)، ويطلق عليها “هجمات الشمال القسنطيني”، نسبة إلى منطقة قسنطينة التي كانت تضم عدة محافظات تقع في جهتها الشمالية.
ولأنها استهدفت مقرات عسكرية ومراكز اقتصادية لفرنسا، شكلت الهجمات نقطة دفع استراتيجية للثورة الجزائرية، بمنحها الحاضنة الشعبية وفضح الاستعمار الفرنسي أمام الرأي العام العالمي.
وفقا لشهادات ووثائق تاريخية، فإن قيادة المنطقة العسكرية الثانية لجيش التحرير الوطني، الجناح العسكري لـ”جبهة التحرير الوطنية” المفجرة للثورة، قررت شن هجمات كبيرة على مواقع لجيش فرنسا ومصالحها الاقتصادية في تاريخ وتوقيت يصعب توقعهما.
وكان مهندس الهجمات، من الفكرة إلى التنفيذ هو الشهيد زيغوت يوسف، الذي تولى قيادة المنطقة الثانية خلفا لقائده ديدوش مراد الذي استُشهد في 17 يناير/كانون الثاني 1955.
وبعد تخطيط سرّي مكثف، وقع الاختيار على تاريخ 20 أغسطس 1955، الذي صادف يوم سبت، لتنفيذ عمليات هجومية تكون ساعتها الصفر منتصف النهار، عكس كل التوقعات التي تعودت على عمليات مماثلة ليلا.
وإلى جانب التوقيت المميز لقتال الاستعمار في وضح النهار، شارك في العمليات مجاهدون مسلحون ببنادق صيد ومواطنون مسلحون بفؤوس وعصي وبنزين وآلات حادة، إذ هاجموا ثكنات عسكرية وأتلفوا أعمدة الكهرباء وأحرقوا مزارع ومخازن الحبوب.
وقال الأستاذ الجامعي رئيس مؤسسة “زيغوت يوسف” التاريخية أحسن تليلاني، إن تلك الهجمات نُفذت في 6 محافظات تابعة للشمال القسنطيني.
وأوضح أنها شملت كلا من “سكيكدة، جيجل، ميلة، عنابة، قالمة ونصف من سطيف وبجاية”، واستمرت الهجمات من منتصف النهار إلى غاية الليل.
جاءت هجمات الشمال القسنطيني بعد 10 أشهر من اندلاع ثورة مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 ضد الاستعمار الفرنسي، وتفيد وثائق وشهادات بأن اختيار تاريخ 20 أغسطس لم يكن اعتباطيا.
وبالنسبة لتليلاني تعد هذه الهجمات بمثابة “الانطلاقة الثانية للثورة”، ولذلك هناك مَن يطلق عليها في الجزائر لقب “نوفمبر الثاني”.
وقدّم تليلاني رغبة الشهيد زيغوت يوسف في الانتقام لمقتل قائده ديدوش مراد دافعا رئيسيا للتحضير لتلك الهجمات.
كما تبرز دوافع أخرى أكثر استراتيجية لمسار الثورة ككل، إذ كان لابد من عمليات نوعية لإسقاط دعاية الاستعمار التي كانت ترفض اعتبار اندلاع الكفاح المسلح “ثورة”، وتصر على وصف المجاهدين الأوائل بأنهم “أقلية خارجة عن القانون”.
وقال الإعلامي نائب رئيس مؤسسة “زيغوت يوسف” التاريخية حميد بوشوشة إن “الهجمات غيّرت مجرى التاريخ وفنّدت الادعاءات الفرنسية القائلة إن الثورة مجرد أحداث يرتكبها خارجون عن القانون”.
بوشوشة أضاف أن مشاركة الشعب في الهجمات ومواجهته للآلة الاستعمارية في وضح النهار بصدور عارية، “كسرت حاجز الخوف وغيرت قناعات الناس وأثبتت أن الشعب الجزائري مصمم على القيام بثورة ضد الاستعمار الفرنسي ونيل الاستقلال”.
ومشاركة مواطنين بسطاء في عمل قتالي عسكري جسّد، بحسب مؤرخين، المقولة الشهيرة لأحد رموز الثورة الجزائرية، وهو الشهيد العربي بن مهيدي: “ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب”.
ومن بين مَن شاركوا في الهجمات، المجاهد السبتي زغدود مبارك، حين كان عمره 18 عاما، وقال إن المواطنين كانوا مدعومين بعناصر من جيش التحرير وهاجموا بأسلحة بسيطة استعمارا شرسا.
وأردف أن “الخروج للقتال في منتصف النهار والاستعداد للموت والشهادة أظهر مدى رغبة الشعب في الاستقلال”، مضيفا أن الهجمات “مثل الصفعة القوية التي يستحيل أن تُمحى من ذاكرة فرنسا”.
ومن الدوافع الاستراتيجية الأخرى لشن تلك الهجمات، فكّ الحصار الذي ضربته فرنسا على منطقة الأوراس (شرق)، التي أُطلقت فيها أول رصاصة منتصف ليلة الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثاني 1954.
وحاولت فرنسا قتل الثورة في مهدها، ففرضت حصارا شديدا على الأوراس، وتتحدث شهادات عن منع دخول حتى المواد الغذائية، مما استلزم القيام بعمل قتالي نوعي لتشتيت تمركز الجيش الفرنسي، فنفذ زيغوت يوسف هجمات الشمال القسنطيني.
أيضا يحضر البعد الدولي في رمزية التاريخ الذي تم اختياره للهجمات، لأن 20 أغسطس 1955 صادف الذكرى الثانية لنفي ملك المغرب محمد الخامس من قِبل الاستعمار الفرنسي، والقصد من وراء ذلك إعطاء البعد المغاربي للثورة الجزائرية، بحسب معطيات تاريخية.
وكان وقع الهجمات وصداها بداية لتدويل القضية الجزائرية، خاصة وأنها جاءت قبل أيام قليلة عن انطلاق أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبالفعل “دخلت الثورة الجزائرية أروقة الأمم المتحدة”، بحسب بوشوشة.
جاء الرد الفرنسي على الهجمات وحشيا إلى أبعد الحدود، إذ أنزلت فرنسا جام غضبها على العزل والأبرياء من المدنيين.
وقال المجاهد مسعود لشهم، إن رد الفعل الفرنسي لم يكن فوريا وبدأ في اليوم الموالي، إذ “أرسلت (فرنسا) 17 طائرة إلى محافظة سكيكدة لقصف القرى والمناطق التي حدثت بها الهجمات”.
وصدرت أوامر جزائرية بالانتقام من الحاكم العام للجزائر آنذاك جاك سوستيل، الذي أمر بالعنف الوحشي تجاه المدنيين.
ويتداول مجاهدو المنطقة تصريحات فرنسية تقول إن الجزائريين “نظموها (الهجمات) في 20 من الشهر وسنقتل منهم 20 ألفا”.
وتفيد تقديرات مؤرخين بأن عدد الضحايا فاق 12 ألف شهيد، نصفهم في سكيكدة، ولا زالت الجرافة التي استخدمتها السلطات الاستعمارية في جرف ودفن 1500 شهيد أمام ملعب وسط المدينة معروضة في مكانها كشاهد تاريخي على وحشية فرنسا.
(الأناضول)