هدايا الدبلوماسية المغربية للنظام الجزائري

حجم الخط
150

بالنسبة لي، إنسانيا وعاطفيا، الرابع والعشرون من آب (أغسطس) 2021، رغم أنني توقعت الوصول إليه وانتظرته في الأسابيع التي سبقته، يوم أسود مشؤوم في تاريخ منطقة المغرب العربي وشعوبها، أكثر مما كان الرابع والعشرون من الشهر ذاته من عام 1994.
صيف 2021 واحد من أصعب المواسم على النظام الجزائري خلال العقود الثلاثة الأخيرة. كان صيفا مثقلا بالمشاكل والضغوط الداخلية، تجسدت بالخصوص في استياء شعبي كبير وفقدان السيطرة على تفشي وباء كورونا وانتشار حرائق خطيرة اختار هذا النظام أن يدخلها في متاهات السياسة ونظريات المؤامرة الخارجية، بدل أن يتعامل معها بواقعية ويطلب مساعدة دولية مثلما فعلت دول وحكومات عدّة عبر البحر الأبيض المتوسط.
مثل كل الحكومات وأنظمة الحكم المأزومة والمرتبكة، في مثل هذه المواقف تصبح الحاجة إلى عدو خارجي أشد إلحاحا لدغدغة المشاعر القومية الكامنة طبيعيا في أعماق الناس وصرف الانتباه عن همومهم الداخلية.
في هذه الأجواء يحضر المغرب في التوقيت المناسب ويلقي، عبر دبلوماسيته، مرتين، بطوق نجاة باتجاه النظام الجزائري. المرة الأولى من خلال الدبلوماسي عمر هلال ودعوته لتقرير مصير «شعب القبائل» والثانية من خلال وزير الخارجية الإسرائيلي وتنديده بالعلاقات الجزائرية الإيرانية من المغرب.
حديث هلال عن تقرير مصير «الشعب القبائلي» خارج الصواب وافتقد إلى بُعد النظر والنضج الدبلوماسي. كيف؟ لأنه تناسى أن «الشعب القبائلي» ليس أقلية استوردها الحكام الجزائريون من بلد آخر، بل مكوِّن أساسي في المجتمع الجزائري موجود على هذه الأرض منذ آلاف السنين. تناسى هلال أن «الشعب القبائلي» موجود أيضا في كل المغرب، وأن «قضيته» في شمال المملكة على وجه الخصوص، لا تقل تعقيدا عن «قضية» قبائل الجزائر، وعلاقته بالسلطة في الرباط أكثر حساسية من علاقة سكان تيزي وزو وبجاية بالحكم الجزائري. كلام هلال عن حرية «الشعب القبائلي» صادقا كان أم لمجرد القياس، ينسحب على «قبائل المغرب» مثلما ينسحب على «قبائل الجزائر» وأكثر، لأنه لم يأخذ في حسبانه أن أمازيغ شمال إفريقيا لا يفرِّقون بين البلدين وبالكاد يعترفون بالحدود. والدليل أن «المؤتمر الأمازيغي العالمي» مقره الرباط ورئيسته الحالية جزائرية تسمى قميرا نايت سيد، ولوائحه تعتبر أمازيغ شمال إفريقيا كتلة واحدة غير قابلة للتفكيك. نسيَ هلال أيضا أن فكرة تقرير مصير «قبائل الجزائر» لو قُدِّر لها أن تصبح واقعا في الجزائر، ستنتقل بسرعة الضوء إلى المغرب، ويكون وقعها أشد وأخطر.
لم يحتج النظام الجزائري إلى هدية أفضل من هذه ليقرر «مراجعة» العلاقة مع المغرب ويمضي خطوة أخرى نحو القطيعة.
بدل أن تحاول الدبلوماسية المغربية «لملمة» تصريحات عمر هلال والتخفيف من وقعها، آثرت الصمت واللعب على عامل الوقت في تصرف دلَّ على أنها إما لم تستوعب خطورة ما بدر من أحد أهم رجالها، أو أنها استوعبت ذلك لكنها قللت من أهمية الغضب الجزائري (محاولة سعد الدين العثماني الخميس الماضي في موقع «هيسبرس» تبرير كلام هلال ملتوية ومتأخرة تأخر سيارة إطفاء وصلت إلى موقع الحريق بعد أن التهمت النيران كل شيء) ومنحت النظام الجزائري هدية ثانية: «واقعة» وزير الخارجية الإسرائيلي يئير لابيد في الدار البيضاء.

القطيعة هي أسوأ النهايات، وضربة قاصمة لطموحات وأحلام ملايين الناس في البلدين

يدرك القاصي والداني أن الزيارات الرسمية عالية المستوى بين الدول تتم بعد تحضيرات دقيقة وصارمة لكل صغيرة وكبيرة، وتُرتَّب كل تفاصيلها بالكلمة والحرف. لهذا من غير الوارد الاعتقاد أن حديث الوزير لابيد، وهو في الدار البيضاء، عن التقارب الجزائري الإيراني مجرد «تصرف فردي». من المستحيل ألا يكون وزير الخارجية المغربي على علم بالأمر. خلافي معك لا يمنحك الحق في أن تستضيف عدوّي ليتطاول عليّ من شرفة بيتك. هذا اسمه، في أحسن الأحوال، تواطؤ واستفزاز. وفي أسوأ الأحوال يرقى إلى استقواء بغريب. في الحالتين هو أمر غير مسبوق في العلاقات الإقليمية، دون أن ننسى أن التطاول الإسرائيلي غير مؤسس مضمونا لأن العلاقات الجزائرية الإيرانية لا يُعرف عنها، رسميا على الأقل، أنها قوية إلى درجة تشكل خطرا على إسرائيل أو المغرب. أما مناورة الجزائر لمنع ضم إسرائيل إلى الاتحاد الإفريقي بصفة عضو مراقب، فأمر مألوف في المحافل الدولية، وهناك دول إفريقية أخرى سعت لعرقلة حصول إسرائيل على صفة مراقب. العتب هنا على مَن تحمس لضم إسرائيل. وإذا كان هذا ما «فلت» للعلن، فماذا يا تُرى قال لابيد وبوريطة عن الجزائر في اجتماعاتهما المغلقة؟
رغم كل ما سبق، القطيعة هي أسوأ النهايات، وضربة قاصمة لطموحات وأحلام ملايين الناس في البلدين. منذ سنوات طويلة لم نسمع عن دولة قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع دولة أخرى. علاوة على أنها تُضعف البلدين وتشكل إدانة لنظامي الحكم فيهما، القطيعة دليل على عجزهما عن خوض حوار حضاري إنساني يليق بدول وحكومات القرن الحادي والعشرين. العداء الشديد بين الصين وأمريكا والجوسسة والحروب الاقتصادية المستعرة بينهما، لم تؤدِ بهما إلى قطيعة نهائية. ووسائل إعلام البلدين لا تحمل أيّ كلام جارح وشتائم وأفكار مريضة تجاه الآخر. وكذلك الحال مع روسيا وأمريكا ودول أخرى تدرك أن القطيعة النهائية ليست الحل في هذا الزمن والعالم.
قطع العلاقات الدبلوماسية بين دولتين لا يمكن أن يكون خبرا جيدًا، فما بالك إذا كان البلدان جارين متداخلين جدا إنسانيا واجتماعيا وثقافيا.
يحزنني أن يوجد في الرباط والجزائر من يجهل أن علاقة سويَّة ومتكافئة ومستقرة مع جارك مسألة استراتيجية حيوية لا تملك ترف التضحية بها. أرثي حال الذين، في العاصمتين، يتوهمون أن القطيعة الجديدة لن تكلف بلادهم شيئا وستجلب لهم الخير وتجعلهم أفضل حالا. وأستغرب أن يكون هناك من يهلل لكون جهتك الشرقية أو الغربية، جناحك، سندك، موصدة في وجهك ومقطوعة عنك وأنت مقطوع عنها.
أيّ جنون ابتُليت به هذه المنطقة؟

كاتب صحافي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نهيلة:

    كمغربية كل التقدير والاحترام لكاتب المقال.
    لو كنا نملك مثل افكاركم وعقولكم في عالمنا العربي لما تفرقنا ولما تشتتنا .اتمنى ان يكثر الله من امثالكم لإنقاذ شعوبنا العربية

  2. يقول متابع:

    من كان بيته من زجاج وجب عليه عدم قذف الأخرين بالحجارة.

  3. يقول محمد عبد الرحمن:

    جميل جدا ولكن لماذا لا نقرأ مثل هذا الكلام لكتاب مغاربة ؟

  4. يقول أسامة حميد -الصحراء المغربية:

    مسك العصا من الوسط لا يفيد فلا بد من وضع النقط على الحروف. أولاً الذي بادر لقطع العلاقات هي الجزائر وليس المغرب. ثانياً الذي يعتدي على جاره منذ 46 سنة محاولاً تمزيق وحدته الترابية بالمال والسلاح والمرتزقة والدبلوماسية هي الجزائر وليس المغرب. ثالثاً من يكيل الاتهامات العبثية وبدون أدلة لجاره هي الجزائر. رابعاً المغرب حر في استقبال من يشاء وهذا من أعمال السيادة ولا دخل لأحد في ذلك كائناً من كان.خامساً المغرب لا يضع الكلمات في فم ضيوفه وتصريحاتهم لا تُلزمه. سادساً كم مرة تعرض ضيوف الجزائر للمغرب بالانتقاد والطعن في وحدته الترابية ولم يلُم المغرب الجزائر على ذلك. سابعاً المغرب غير ملزم بالتعقيب على تصريحات السيد عمر هلال لأنه يعبر عن موقف الدولة التي انتدبته بشكل رسمي وليس عن رأيه الشخصي فهو ليس سفير نفسه. ثامناً قضية القبائل موجودة ولها حكومة في المنفى وتمثيليات في الخارج ولا طائل من إنكارها بإغراقها وسط “قضايا” افتراضية مشابهة وتكهنات…تاسعا لماذا يتم دائماً السكوت عن أم القضايا المتمثلة في عدوان الجزائر المستمر منذ نصف قرن على المغرب؟ عاشراً قضية الوحدة الترابية للمغرب التي هي عنوان فشل النظام الجزائري ونجاح الدبلوماسية المغربية ذات النفس الطويل هي المتن أما الباقي فمجرد هوامش.

    1. يقول ضد الضد:

      برافو…. لقد وضحت كل شيء و لا ينكر ذلك إلا الجاهل الغير المثقف .

    2. يقول الأمازيغي الحر:

      شكرا أسامة على هذا الجواب الكامل للكاتب و للمعلقين. أين الموضوعية أين الحكمة؟ من سيعيش سيرى كما يقول المثل الفرنسي. الله يهدي ما خلق و صافي.

  5. يقول عبدالفتاح:

    أرجوكم أيها المسيرون السياسيون شعبين مسلمين تربطهم علاقات أخوية جزائري ومغربي خاوى إلى ان يرت الله الأرض وما عليها لا نريد تفرقة أو مشاكل الشعب يريد ان يعيش في سلام

  6. يقول ابن الوليد. ألمانيا.:

    دائما و ابدا .. نتحدث عن كل شيئ .. الا صلب الموضوع ..
    .
    نتحدث عن الرصانة التي ننتظرها من المغرب .. و لا نتحدث عن صبره صبر ايوب لمدة نصف قرن على قاموس يتهم المغرب بالمستعمر.
    و مرة واحدة .. و كوخزة اذن .. استعمل سفير المغرب نفس القاموس المستعمل عند نظام الجزائر منذ نصف قرن .. هنا .. و هنا فقط .. نتذكر مفاهيم مثل التفكير .. و خطر و ابعاد الكلمات ..
    .
    طبعا .. نتحدث عن تصريح سفير .. و لا نذكر كلمة حول اختلاق .. و تسليح . البوساريو .. و اعطائهم الضوء الاخضر ان يهاجموا
    المغرب من داخل الاراضي الجزائرية ..
    .
    نتحدث عن تصريح سفير .. و عن استعماله كلمة استعمار .. و لا نتحدث عن انه رد حجاجي على معالي وزير .. اي نعم ليس سفيرا
    بل وزير خارجية الجزائر لحما و عضما.. و قد استعمل كلمة استعمار ..
    .
    و يحق لي ههنا ان اتساءل .. عن المعايير المستعملة لتسليط الضوء على تصريح سفير .. و لا نرى لسببه و هو تصريح وزير اي اثر ..
    .
    يحق لي ان اتسائل .. هل ربما صبر المغرب لنصف قرن .. و ضبط اعصابه لنصف قرن .. جعل من تصريح وزير بكلمة استعمار شيئا
    يجوز .. و تصريح سفير بكلمة استعمار شيئا لا يجوز .. رغم انه تعقيب على الوزير.
    .
    و لله في خلقه مشاريع.

  7. يقول الحريزي الادريسي ـ المملكة المغربية:

    المغرب ليس مسؤولا عن إستمرار نظام الجزائر إلى هذه اللحظة، بل هي مسؤولية الجزائريين أنفسهم الذين سمحوا للنظام بالبقاء و بالإستمرار، يوم قبلوا بالوئام الوطني و لم يصروا على فتح تحقيق فيما جرى في تسعينات القرن الماضي. على الجزائريين تحمل مسؤولياتهم كشعب. و عليهم أن يساعدوا أنفسهم بأنفسهم، فإن فعلوا ذلك فقد تأتيهم مساعدة الأصدقاء و ربمّا الأشقاء أيضا…

    1. يقول ابن الوليد. ألمانيا.:

      و الله انها ملاحظة في غاية الدقة .. لم يبقى لهم سوى ان يحملوننا مسؤولية استمرار النظام .. باعطائه هدايا. قبعة مرفوعة عاليا ..

  8. يقول محمد البويهي من العيون:

    الفرق بين القبايل و اماني المغرب هي أن القبايل كانوا مستقلين قبل استعمار فرنسا للجزائر و تسلمها من الاستعمار العثماني الذي تسلمها من استعمار …حيث لم تكن هناك دولة بالمفهوم الصحيح.

  9. يقول م/ب اولاد براهيم:

    يا أستاذ .. اغليك هذا التعليق .كتبته منذ يومين اوثلاثة ؟؟ صحيح المغرب لم يكن سباقا هذه المرة في قطع العلاقات الدبلوماسية بينه وبين الجزائر. لكنه أقدم على فعل خطير جدا جدل. لا قدر الله يؤدي الى حرب بين الدولتين لولا تدخل القدرة الالهية . وصبر؛ وحكمة؛ وحنكة؛ ورباطة الجأش عند القادة الجزائريين. لكانت. الحمد لله مرت بسام ؛ وكان اخف الضرر فطع العلاقات واي دولة في العالم تتعرض لما تعرضت له الجزائر تعلن الحرب.
    العمل الاول الخطير ضرب الوحدة الوطنية وتعريضها للتقسيم والتحريض عليه ؛ والتشهير به علنا.في صورة دراماتيكية بمثابة اعلان حرب..؟
    العمل الثاني الخطير الاستقواء بالعدو وتهديده ؛ ووعيده؛ تشبيهه للجزائر بالارهاب ومن قرب حدودها . اعلان حرب.
    الخلاصة المغرب بهذه الاستفزازية الاعمال الاستعراضية غير محسوبة العواقب؛ والنتائج دفع بالجزائر الى فعل اقصى ما يمكن فعله.؟

    1. يقول Hamid france:

      وماذا عن 45 سنۃ ونضام بلاذكم یحاول تقسیم المغرب

    2. يقول تاوناتي-فرنسا:

      كيف سيكون تصرف اي دولة في العالم إذا اختضنت و مولت و سلحت دولة جار جماعة مسلحة لتشن حربا عليها..

    3. يقول مواطن حر:

      الصحراء الغربية قضية تصفية استعمار بعد ان كانت محتلة من قبل الاسبان قامت المغرب باحتلالها بدون وجه حق ومن حق الشعب الصحراوي الدفاع عن أسترجاع حريته

  10. يقول محمد:

    تحليل حيادي في الصميم نظامين متهالكين يصدر اني ازماتهم الداخلية بتوجيه نظر الراي العام نحو البلد الآخر. ليغفل الشعبين عن المشاكل الحقيقية الفساد، البطالة، الهجرة في قوارب الموت إلى اروبا، غياب العدالة و حرية التعبير…

1 2 3 11

إشترك في قائمتنا البريدية