هدنة

لا أستثقل شيئاً في الدنيا مقدار استثقالي للغلظة في الكلام، ولا أنفر من شيء مقدار نفوري من القسوة والتعالي في الحوار، مهما كان الموضوع وأياً كان الطرف الذي رست عليه الغلبة، ويبقى الإنسان الغليط منفراً مهما قدم من حجج واستعرض من معقد الكلمات ومهيب التعابير.
شغلنا «الواتس آب» هذه الفترة بتوارد كم هائل من المعلومات، معظمها غث وأقلها سمين، أتعامل معها قدر ما تتيح ساعات اليوم، حيث نادراً ما أشغل فيديوهاتها، والأندر أن أرسل شيئاً منها. إلا أنني انشغلت بهذا التطبيق كما انشغل غيري هذه الفترة دون أن أستطيع منه حقيقة فكاكاً. وعلى قدر ما يرسل الناس من أدعية وصلوات، فإنهم يرسلون كذلك أكاذيب وقساوات وعنصريات، ويقسون ويغلظون في التعبير. ولأننا في وقت حرج، ولأن البشرية في اختبار وجودي، ولأن جيلي لأول مرة يواجه بطريقة مباشرة فكرة فنائه، فإن صفات الصبر والتغاضي والتجاهل التي كنت أحاول اعتمادها قد نفدت جميعاً، فأجدني وقد انشغلت بالردود والدفاعات حتى أرهق القلب وأستهلك الوقت، وامتلأت الليالي بالكوابيس، والنهارات بالصداعات وزغللات العيون.
بالأمس كانت ليلة حافلة في حوار مع أحد رجالات الدين عندنا، رجل أكاديمي معروف بأنه يقف في خط الهجوم الأول على «الملاحدة»، كما يطلق عليهم دائماً. وعلى أن كلامي يحمل مخاطرة تعميم لا أعنيها، فإنني أجد أن أسلوبه، على درجة حدته المرتفعة، لا يختلف كثيراً عن أساليب معظم أفراد اليمين الديني، الذين لربما يعتقدون أن الغلظة في الدفاع عن الدين والقسوة بالكلمات والعنف في وصف الآخر واجب أخلاقي يستدعيه دفاعهم عن الدين. مرة أخرى، لا أقصد التعميم، فبالتأكيد ليس كل فرد من اليمين الديني متغلظ الطباع، ولكنها ظاهرة منتشرة بما يبرر الجملة التعميمية. بكل تأكيد، هذا لا ينحصر في هذه الفئة فقط، فهناك من دعاة الفكر المضاد ممن يبدون غلظة شديدة التنفير، منهم مثلاً كريستوفر هيتشنز، الذي توفى في 2011، والذي، رغم إعجابي بكمية معلوماته واتساع اطلاعه الأدبي والعلمي الخارق، إلا أنه كان يبدي هجوماً وغلظة يصلان حد التهجم القبيح، كان ذلك يبدو شديد التنفير وشديد التأزيم، خصوصاً حين تعجب بالفكرة وتكره طريقة التعبير عنها.
إلا أن القسوة حين تأتي من شخص يدعو إلى فلسفة روحانية أو توجه تعبدي، يصبح، في رأيي، حجمها أكبر وتصبح درجة التناقض أعمق، بما يفقد المتحدث مصداقيته. كان محدثي ينتقد «علموياً»، حسب تعبيره، لاستخدام هذا الأخير تعابير مؤذية بأن وصفه «بالمستصنم» مستهزئاً، في متضمن حديثه، بالعلمانيين عموماً، وهو نقد وإن كان حقاً له، إلا أنه يتناقض مع نقده هو بحد ذاته «للعلموي» وتعابيره الغليظة. حاولت أن أوصل هذه الفكرة، أنه لا يجوز أن تنتقد فعلاً وتأتي مثيلاً له، إلا أن الحوار وصل بنا إلى النقطة التي دائماً تصلها مثل هذه الحوارات: أنا جاهلة فيما أتحدث به، ولديّ حالة انبهار (بأشخاص علمانيين) تعطل ملكة النقد. قلت لمحدثي إن طيب الحوار والرحمة وعدم الغلظة تخلق خط رجعة أمام الطرف الآخر إن اختار مراجعة فكرته والتعاطي مع طرحي دون أن يسبب ذلك إحراجاً له، إلا أنه كان يرى أن هناك من لا خط رجعة ممكناً معهم، دون أن يلاحظ أنه هو من قطع هذا الخط بيننا بغلظة الأسلوب وتجهيله الطرف المقابل له وتسذيجه بالانبهار. لو كان لفكرته جمال فقد تشوه على الطريق القاسي، ولو كان لها منطق فقد ضاع في طيات تصغيره للآخر والتعالي عليه بادعاء امتلاك علم لا يملكه الطرف الآخر، حتى قبل أن يتبادل معه الحوار.
أصبحت اليوم وقد طن رأسي بالصداع، فالحوار القاسي مؤذ، والنفس المتعالية منهكة، لأدخل في حوار آخر مع صديقة في مجموعة «واتس آب» أخرى ترمي لإقناعي بكذب فئة كاملة من البشر وسوئها. تجادلنا بعض الشيء، فانتهيتُ لأذكرها أن الرحمة وحسن الكلام مطلوبان في هذا الوقت الذي تختبر فيه البشرية بأكملها وجودها، ولتتقبل هي بصدر رحب كلمتي الطــــويلة التي كتبتها لها ولتتواضع، رفعها الله، برقة متفقة مع المنحى الإنساني الذي حاولت أن أبثه في الكلمة. لا أنا ولا هي عالمتا دين، لكننا إنسانتان، تذكرنا إنسانيتنا وقت المحنة، فتركنا الأفكار المسبقة والعنصريات الرابضة، واتفقنا على أن المكان الآن للرحمة ولحسن الخلق ولإحسان النية تجاه الآخرين. هذه الصديقة متدينة كذلك، ملتزمة حد التوغل، وأنا «متلبررة» حد التقديس، لكننا وجدنا طريقنا واحدة باتجاه الأخرى، المحنة علمتنا، دون أن نتنابز بالدرجات العلمية أو المعرفة، ودون أن تتهم إحدانا الأخرى بالسذاجة والانبهار.
هي أنماط، لكن نمط البطل القاسي سليط التعابير متشدد الأسلوب، بحجة أحقية الموضوع أو عظم المبدأ أو جدية النقاش، هو نمط «غير جميل» تفادياً لكلمة أقسى، تعبنا التعامل معه، وترجينا أن المحنة الحالية ستعلم أصحابه شيئاً حول التعاضد البشري والتواضع المعرفي. إلا أن القسوة تبدو بازدياد، فهل تعلمنا المحن أم تقسينا؟ لربما يستوجب عليّ أن أعود لتحملي وتقبلي، فكما يتقبلني الكثيرون الآخرون بطبائعي الموجعة، وما أكثرها، لا بد لي من قبول طبائع الآخرين الموجعة كذلك، أنا فقط منهكة من القسوة والغلظة والبطولات الكلامية المبنية على كرامات الآخرين، لربما أحتاج هدنة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي:

    3-إدانة كريستوفر هيتشنز، الذي توفى في 2011، حق، لأنه يعمل في مناخ حر يتيح له ولغيره التعبير بلا حدود. ولكن إدانة المقموع بمقامع من حديد تحتاج إلى الرحمة والعطف والتماس العذر.
    ومع ضراوة المحنة الفيروسية الراهنة، فما زالت العنجهية والأنانية والمكر تحكم مواقف الدول الغربية المستنيرة. مثلا وقف رئيس صربيا منذ ساعات يخاطب شعبه، ويكشف أنانية المجتمع الأوربي المستنير، الذي امتنع عن عن مساعدة الصرب في مواجهة الوباء، بينما كان حريصا من قبل أن يجعل الصرب، طوع أمره، يسمعون كلامه، وينفذون إرادته بحكم الانتماء الأوربي و يقطعون التواصل مع الصين المنافسة، ولكن عند المحنة تخلى الغرب المستنير ولم يقدم أية مساعدة للصرب، الصين استجابت للصرب وتفضلت بالمساعدة المطلوبة وكاد رئيس الصرب يبكي!

  2. يقول علي:

    -المحنة تفرض على الناس أن يتراحموا بكل معاني الرحمة، ولهم في كل الأحوال أن يختاروا الطريق الذي يروقهم، ولكن الإنصاف يقضي أن نتصدى لعلماء السلطة وفقهاء الشرطة لأنهم يتحركون على مساحة واسعة من الكذب والافتراء وخدمة الشيطان، وليغفر الله لنا وللناس أجمعين، فرحمته وسعت كل شيء.

  3. يقول د . عبد الجبار الأمين:

    نحن في زمن الكورونا..كل شيء أصبح باهتا أمام الحياة.اتعظوا أيها الناس.دعوا الغضب والعتاب والاختلاف جانبا.هي هدنة مع النفس كل شيء أصبح بلا قيمة.كنت اسعى لحضور مؤتمر في سويسرا ووصلتني دعوة كريمة جدا لكن سويسرا عندي الآن لا شيء.اعيدوا حسابات الحياة ، الموقف الآن جد ليس فيه هزل.الجميع معرضون للموت.نحتاج إلى الهدنة كي نراجع حساباتنا..
    ليس سهلا قفل المساجد والكنائس..والاصعب قفل أبواب الكعبة والمسجد النبوي.هذه كارثة.نحن في زمن الكارثة.الموضوع أكبر
    من مقال تكتبه الأخت الفاضلة ابتهال.العالم تغيروتبدل وما بعد كورونا يختلف كليا عما قبلها.هناك خريطة جديدة للأرض.
    تعاونوا وتحابوا ودعوا القيل والقال والتنابز والتفرق.البشرية على كف عفريت حقيقي.نظفوا قلوبكم قبل أن تنظفوا أيديكم؟

  4. يقول جواد رامي - سوريا:

    انا علماني ولست إسلاميا..ولكنني مسلم ..و لا يد من كلمة حق ..كثير مما تطرحه سيدة ابتهال يتناقض مع أصول الإسلام نفسه فمثلا انا اؤمن انني ماض الى الاخرة ولا اعتبر ان ما امضي اليه ظلام غير معروف واعرف لماذا خلقني الله كمسلم واتناقض كثيرا مع خطاب الاسلاميين لكني اتناقض كمسلم علماني مع طروحات د ابتهال ويمكن للسيد باشا أن يقرأ جيدا ويفرق ونحن هنا لسنا في معرض مناقشة الأشخاص وما في قلوبهم كما فعل السيد باشا عندما تحدث باسم المعلقين وباسم د ابتهال نحن نناقش افكارا وانا شخصيا اجد ان خطاب السيد مغربي والسيدة غادة يمتاز بفرادة نادرة غيرت قناعاتي تماما بل وكنت اشرح لزوجتي وهي ليست مسلمة جزءا من ما اقرؤه هنا بقلم السيدة الفذة غادة فرأيك يمثلك واشهد انها قدمت الإسلام بأفضل ثوب اطلعت عليه في حياتي واشهد ان السيد كروي كان دمثا جدا وأنا اليوم أشعر أن الركن ينقصه قلم مميز جدا هو قلم السيدة غادة الذي أرجو أن تكون بخير

  5. يقول فؤاد مهاني (المغرب):

    وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ.
    هذه ليست سوى آية من عدة آيات تدعو رسول الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الرفق في تبليغ الرسالة بالحوار والحسنى
    والأخلاق والذي كان قرآنا يمشي على الأرض. مثل الأعرابي الذي بال في المسجد شرف الله قدرهم ودعى المصلون بالمسجد منهم صحابة أن لا يمسوه بسوء ولا يزرموه وكان ذلك سببا في إسلام ذلك الأعرابي أو بعض اليهود الذي كانوا يؤذوا الرسول فعاملهم بالين والحلم فأسلم البعض منهم بسماحة هذا الدين الذي غزى القلوب وجعل زبدة مفكري وعلماء هذا العصر أن يشهدوا لمحمد بالنبوة بل ويعتنقوا هذا الدين.
    أما تلك النماذج التي تتعامل بالغلظة والقسوة والعجرفة فهي حافلة في كل الإعتقادات من مسلمين ومسيحيين وعلمانيين وليبراليين مثل هؤلاء يجدر أن لا تستمع إليهم مهما بلغوا من علم بغض النظر إن كانوا على صوابا أو خطأ كما يحفل عكس ذلك بناس مثقفين وعلماء دين وفكر وفلسفة متواضعين أشد التواضع لا تشبع من الإستماع إليهم وقرائة ما يكتبون مثل المرحوم المفكر الإسلامي محمد عمارة،العالم الكبير أطال الله عمره زغلول النجار والمرحوم موريس بوكاي وآخرون.

  6. يقول سلام عادل(المانيا):

    تحية للدكتورة ابتهال وللجميع
    اعتقد ان الصلافة والغلاضة في الحديث هي نتيجة تربية وبيئة معينة كانت تحتضن الشخص ومعتقداته وانتماءاته الاخرى ليس لها تاثير في ذلك ولكن بصورة عامة يبقى المتدين المتزمت يرى نفسه دائما على صواب وعلى حق بسبب انتماءه الى هذا او ذلك الدين لانه من الله ولكنه يتناسى ان الدين او الاديان عموما ليست حقائق علمية بما تحتويه من نصوص وافكار وانما معتقدات يتبناها الناس بحسب رغبتهم وما يناسبهم فلذلك نرى البعض يتحول من دين لاخر او من حزب لاخر لان طريقة تفكيره تغيرت او تاثر بتيار فكري معين

  7. يقول الكروي داود النرويج:

    رسالة من القلب للأخت العزيزة, الأستاذة الدكتورة إبتهال الخطيب
    هل تتذكرين عندما تحاورتِ معنا على صفحتك قبل عدة شهور يا دكتورة؟
    لقد دعوتكِ لزيارة بيت الله الحرام حتى تمتلأ روحك بالسعادة الإيمانية هناك!
    أنا أسحب دعوتي تلك بعد أن تم إغلاق بيت الله الحرام بوجه المؤمنين وغير المؤمنين
    الدمع في عيني والحزن في صدري, وكأن الله غاضب علينا, رحماك يا رب, نستغفرك ونتوب إليك, ولا حول ولا قوة الا بالله

  8. يقول الكروي داود النرويج:

    بعد أن كنا 50 شخصاً نصلي الجمعة بمسجد مدينتي بالنرويج, أصبحنا اليوم 5 أشخاص فقط!
    وستكون صلاة هذا اليوم آخر صلاة جماعية بسبب هذا الوباء والبلاء كورونا!!
    اللهم ارفع مقتك و غضبك عنا, ولا حول ولا قوة الا بالله

  9. يقول سلام عادل(المانيا):

    اللهم ارفع مقتك و غضبك عنا, ولا حول ولا قوة الا بالله
    الاخ الكروي يعتقد ان الله هو مسبب كورونا بسبب غضبه علينا هل برايكم هو يسيء الى الله ام يمجده

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية