هدية إماراتية مسمومة للمغرب

حجم الخط
146

لو كنت مغربيا لمنعتُ نفسي عن الاحتفال بقرار الإمارات فتح قنصلية عامة في العيون، كبرى مدن الصحراء الغربية.
قرار مثل هذا يستحق الاحتفال لو صدر من بريطانيا أو أمريكا أو سويسرا. أما من الإمارات، فهو يدعو للحذر والتشاؤم أكثر منه للتفاؤل والفرح، رغم أهميته الرمزية والاستراتيجية.
ليس من الخطأ القول إن الإمارات لم تتخذ قرارها حبًّا في المغرب، بل خدمةً لإسرائيل والولايات المتحدة ونكاية في الجزائر.
لدى المغاربة من التجارب الحديثة مع الإمارات، ما يكفي وما يجبرهم على الحذر منها. لم يعد سرًّا أن التحركات الإقليمية للإمارات في السنوات العشرين الأخيرة مبنية كلها على شراء الذمم، وخلفياتها دسائس ومؤامرات. وقراراتها فردية تُتخذ في لحظة مزاجية سلبا أو إيجابا. هي أيُّ شيء إلا حسابات دولة وقرارات مؤسسات. ترضى عنك فتفتح لك قنصلية في كل ثقب من أرضك الشاسعة، تغضب منك (حتى لأتفه سبب) فتغلق سفارتها في عاصمتك دهرا، وفي أحسن الأحوال تتركها مهجورة بلا سفير، ثم تبدأ مناورات الإضرار بك.
مثلا: في السنوات الثلاث الأخيرة اجتهدت أبوظبي كثيرا لإذلال المغرب. سحبت سفيرها بالرباط دون أن تكلف نفسها عناء إعلان ذلك رسميا وبوضوح. أطلقت عليه وسائل إعلامها وسعت لعزله والإضرار به، فقط لأنه فضّل بعض التروي في موقفه من الحصار الاقتصادي والدبلوماسي الذي قررته الإمارات والسعودية على قطر.
المغاربة، بنُخبهم وعَوامِهم، يذكرون ضغوط أبوظبي الأخيرة حتى في موضوع الصحراء. أرشيف وسائل الإعلام المغربية والإماراتية حافل بالشواهد في هذا الشأن.
منذ منتصف شهر أغسطس (آب) الماضي وقرار التطبيع العلني مع إسرائيل، أصبحت الإمارات أكثر من مجرد دولة (أخرى) تقيم علاقات مع تل أبيب. أبوظبي اليوم هي الوكيل الحصري لإسرائيل والولايات المتحدة في الهلال الممتد من نواكشوط إلى مقديشو، وربما أبعد إذا ما استطاعت. الإمارات هي المفاوض نيابة عن واشنطن لصالح إسرائيل. مهمتها جلب أكبر عدد من الركاب إلى قطار التطبيع في أسرع وقت. أساليبها تتراوح بين الترغيب بالمال والمساعدات للفقراء والمحتاجين، والترهيب عن طريق التهديد بالتخريب للعنيدين والرافضين.
لهذا لا يمكن فصل قرار فتح قنصلية في العيون عن شرط سيلحقه، أو ربما وُضع سلفًا على مكتب الملك محمد السادس: تطبيع رسمي مع إسرائيل. يدرك المسؤولون الإماراتيون أن المسألة مع المغرب لن تكون صعبة جدا. هناك عدة معطيات تُسهّل مأمورية أبوظبي، منها أن الحاجز النفسي بين المغرب وإسرائيل مكسور منذ سنوات. وهذا لأسباب أبرزها وجود علاقة سابقة بين البلدين، ولو على مستوى منخفض، وأيضا وجود جالية يهودية في المغرب تضع رجْلا هنا وأخرى هناك دون أن تحاول إخفاء ذلك.

أصبحت الإمارات أكثر من مجرد دولة (أخرى) تقيم علاقات مع تل أبيب. أبوظبي اليوم هي الوكيل الحصري لإسرائيل والولايات المتحدة في الهلال الممتد من نواكشوط إلى مقديشو

هناك سبب آخر لا يقل أهمية يتمثل في كون ملف الصحراء الغربية هو نقطة ضعف المغرب التي تجعله متعطشا لأي دعم دبلوماسي في خصوصه. سبق للمغرب أن احتفل بدعم ومواقف لا قيمة حقيقية لها في قضية الصحراء، فما بالك بفتح قنصلية في العيون، وهو قرار يشبه هدية من ذهب لشخص انتظر منك نحاسا فقط أو ما دونه. وهذا من صميم التكتيك الإماراتي: الإغداق بلا حساب.. على الخصوم لإغرائهم وإخضاعهم، وعلى الحلفاء للحفاظ عليهم.
هناك طرف آخر في هذه المعادلة: الجزائر. لن يغفر المسؤولون الإماراتيون بسهولة كلام الرئيس عبد المجيد تبون العلني عن «المهرولين إلى التطبيع مع العدو» وعن «فلسطين قضيتنا الأساسية شعبا وحكومة». كان ذلك في مقابلة تلفزيونية في ذروة ردود الفعل السلبية على إعلان اتفاق التطبيع بين الإمارات وإسرائيل.
كان في إمكان الرئيس الجزائري أن يسجّل موقفا لصالح فلسطين وضد التطبيع دون الوخز في الإمارات أو غيرها. شيء من الواقعية ما كان سيكلفه شيئا. كان على مستشاريه أن ينصحوه بوضع الأمر في سياق جديد ومختلف تماما، من نتائجه أن المنطقة كلها مُقبلة على زمن يصبح فيه المنبوذ هو الممتنع عن التطبيع (إن وُجد أصلا ممتنعون سيستطيعون الصمود) وليس العكس كما كان الحال في العقود الماضية.
الفضل الأول في انقلاب المفاهيم الذين نحن مقبلون عليه قريبا، سيعود للإمارات وثروتها الطائلة وجرأة قادتها على إنجاز المستحيل واللامعقول.
الجزائر التي نددت احتجت بشدة على قرار كوت ديفوار ودول إفريقية أخرى فتح ممثلية دبلوماسية في العيون العام الجاري، لم تعلّق علنا على قرار الإمارات. ولم يبدر من وسائل إعلامها ما يفيد عن غضب أو احتجاج رسمي أو إعلامي.
يمكن إيجاد تفسير لهذا الارتباك الجزائري في نفوذ الأخطبوط الإماراتي، وفي تداخل المصالح والحسابات إقليميا. سيكون من الصعب على الجزائر وأيّ دولة عربية أخرى أن تغضب من الإمارات مثلما تغضب من كوت ديفوار أو جمهورية إفريقيا الوسطى. علما أن موضوع القنصليات تكرر خلال العام الجاري، وأصبح من الصعب أو توقفه لحظة غضب أو استدعاء سفير، إذ هناك اليوم ما لا يقل عن 15 قنصلية إفريقية موزعة بين مدينتي العيون والداخلة.
من الواضح أن هذه القنصليات الإفريقية هي ثمرة عمل دبلوماسي مغربي طويل، لا يقابله ثمن كبير تطلبه الدول المعنية أو تنتظره. أما القنصلية الإماراتية فهي ثمرة جهد تبرعت به أبوظبي دون أن يطلبه المغرب، مقابل ثمن كبير طلبته الإمارات أو ستطلبه. إنها هدية مسمومة ردّها مشكلة وقبولها مشكلة.

كاتب صحافي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مومو:

    من المغرب متفق معك 100%

  2. يقول warga said:

    لا نلوم المغرب الدفاعه عن وحدة أراضيه. بل يجب أن نلوم من يسعى جاهدا وبكل الوسائل التقسيم المغرب وهيا الجزائر البلد الجار الدي نتقاسم معه الدين والمصير المشترك.

  3. يقول ابن الوليد. المانيا.:

    دبلماسية المغرب عريقة جدا .. فهناك معاهدات و مواثيق ابرمت منذ قرون من الزمن و لا زالت فاعلة.
    .
    و الرصانة و عدم التسرع بردة الفعل هي سمة الدبلماسية العريقة و الصلبة .. ذات قوة ناعمة كبيرة.
    .
    نحن الآن امام مشهد .. دولة تتلون كالحرباء في مواقفها تعرض على المغرب فتح قنصلية في جنوبه.
    طبعا الأمر واضح .. فهناك اسباب .. قد نبدأ بحسن نية و نقول أن السبب هو الأخوة و الصلح .. و قد
    نذهب بعيدا و نقول أن السبب هو جر المغرب الى معسكر التطبيع ..
    .
    طبعا .. هذا لن يخفى على جهابدة الدبلماسية و السياسة المتمرسين في المغرب .. و لذلك ارى أن ما
    قاموا به غاية في الذكاء .. بحيث لم يصدر عن الامارات أي اشارة للموضوع .. و ربما كانت تريد
    أن يبقى الأمر سرا .. إلى أن يبتلع المغرب اللغم .. و يطبع مثلا .. و لن تفتح أي قنصلية ..
    .
    لكننا نرى أن المغرب اصدر بلاغا .. و ليس من أي وزارة و لا حكومة .. بل من القصر الملكي مباشرة ..
    و هذا ناذر جدا .. و انا على يقين أنه قد اصدر هذا البلاغ بعد موافقة الإمارات على اصداره. فماذا وقع ..
    .
    يتبع رجاءا 1

    1. يقول ابن الوليد. المانيا.:

      قد تم وضع الامارات امام اتباث النوايا الحسنة .. و الخروج من السر إلى العلن .. و تأكيذ أنها تعترف
      بمغربية الصحراء .. حتى و إن لم تفتح اي قنصلية .. ثم .. و هذا مهم للغاية، قد اصبح امر مقايضة
      المغرب بمسألة الصحراء أمرا مستحيلا على الامارات في وسائل اعلامها .. فإن فعلت فكأنها تطلق
      رصاصة على ركبتها بعد الموافقة على بلاغ القصر .. لأنها لم تكذبه لحد الآن ..
      .
      و الرابح هو المغرب .. فقد كسرت الامارات جدار الحيادية تجاه الأمر عند الدول العربية و الاسلامية
      تجنبا لمشاكل مع الجزائر .. و هذا سيكون له ما بعده في صالح المغرب ..
      .
      فلا تقلق على المغرب سيدي الكاتب المحترم .. إنه يعرف من أين تأكل الكثف مع الضباع ..
      .
      فها أنت ترى سيدي .. المغرب قد ربح من شيئ لا زال لم يدون بعد على ورق .. و هنا البطولة ..
      .
      انتهى شكرا 2

  4. يقول مراقب:

    نحن لسنا بحاجة الى سفارة امارتية لن تزيد الوضع الا تازما ..الامارات عميلة لاسرائيل شعرت بالدل والعار والعزلة العربية فجاءت تبحت عن شركاء لها ..لاخير في من يخون دينه وقومه وبلاده..

    1. يقول فريد:

      هل أصبحت الإمارات كبيرة إلى الحد الذي تخشاها دول كبيرة مثل الجزائر؟ماذا لوفكرت هذه الدول فب التآمر على هذه الدويلة التي أصبح التآمر شعارا لها؟

    2. يقول صالح/ الجزائر:

      اعلم يا سي فريد أن العرب كانوا ، قبل بزوغ فجر الإسلام يصنعون أربابا (أصناما) من عجين التمر مثلا، ويقدمون لها القرابين، ويعبدونها لبعض الوقت، وعندما يشتد بهم الجوع، فإنهم يأكلونها . الإمارات قد لا تختلف عن هذه الأرباب/الأصنام وسوف تؤكل إن عاجلا أم آجلا .

  5. يقول SAAD EL ACHHAB:

    يجب أن تعلم يا جزائري أن الامارات شاركت في المسيرة الخضراء سنة 1975 بجانب السعودية و قطر و عمان و البحرين، كما أن بن زايد شارك في المسيرة الخضراء و عمره انذاك 14 سنة
    الصحراء مغربية إلى أن يرث الله الأرض و من عليها.

  6. يقول Rock:

    هناك شيء ورد في تصريح تبون لم ينتبه إليه أحد وهو قوله بأن القضية الفلسطينية هي أم القضايا…يعني أنه إذا وضعت الجزائر في موقع مفاضلة بين قضيتي فلسطين أو دعم البوليزاريو (خاصة إذا اشتدت عليها الضغوط للتطبيع وخافت من النبذ كما قال الكاتب) فإنها ستختار إعطاء الأولوية للقضية الفلسطينية؟

  7. يقول Abdulrab:

    العلاقات المغربية الإماراتية في المسار المطلوب للعلاقات العربية البينية . و نتمنى ان تتحسن العلاقات المغربية الجزائرية و تكون في مستوى احسن بكثير من الآن.

  8. يقول brahim fguirouche:

    اتمنى من كل دول العالم ان تفتح قنصلياتها في الصحراء المغربية هذه امنية اغلبية المغاربة و انا اتكلم عن الشعب.فمن لا زال يجعل من هذه القضية قضية الدولة فهو مخطئ. هي قضية الشعب المغربي اولا و قبل كل شيء ومن لا يصدق فليأتي الى المغرب و يسال الناس عن الصحراء و سيسمع الرد. لن نتنازل و لن نساوم في تراب الوطن لن ننسى دماء من استشهدوا دفاعا عن الوطن و لا مغفرة للخونة.

  9. يقول شرحبيل الشامي:

    تحليل في العمق أستاذ توفيق رباحي. فتح الامارات للقنصلية في الصحراء الغربية تكتيك مكشوف هدفه الظهور بمظهر من يشيع المغرب لدخول نادي التطبيع، وزيادة الحظوة لدى السيد ترامب وحليفه نتنياهو. المغرب مطبّع من زمان وإن على طريقته الخاصة.

  10. يقول محمد الصحراوي:

    تحليل عميق ودقيق.

1 4 5 6 7 8 13

إشترك في قائمتنا البريدية