هذا الغرب المرتبك عربيا بات متوجسا من ‘ربيعه’ القادم

حجم الخط
1

ليس كشفاً غريباً، ولا مفاجئاً أن تكون أمريكا، زعيمة الغرب ورائدة ثقافته العلمانية، قد اختارت الانحياز شبه الكلي إلى جانب التيار الإخواني الإسلاموي، وفي لحظة هذا الربيع العربي نفسه، من انفجار ثوراته مشفوعة دائماً بتناقضاتها الكثيفة. أمريكا التي لم تر فائدة في التصدي المباشر لهذه الثورات، ارتأت لذاتها مواقف المسايرة الظاهرية للحدث الهيجاني وهو في أوج فورانه. ثم تعمد إلى الالتفاف عليه. فأمريكا لم تجلس خارج المسرح لأية ثورة قامت في عالمنا العربي منذ ثلاث سنوات، لا تكتفي بمراقبة الحدث الثوري، سرعان ما تميز في الثورة الجديدة نقاط ضعفها من نقاط قوتها. فليس ثمة ثورة مهما تنبهت قياداتها لتحركات أعدائها من حولها، فهي لن تكون واعية تماماً لأخطار أمنها السياسي، بذات النسبة لوعيها الحركي أو الأمني. من هذه الصدوع العفوية بين الأمنين تتسلل المداخلات الخبيثة، يصبح الغرباء الدخلاء على جسم الثورة لاعبين شبه أحرار في مقدراتها الداخلية. هكذا فقد تستيقظ الثورة ذات صباح لتجد أن ذاتها لم تعد هي ذاتها، إن لها وجهاً آخر، وأن أسماء أخرى تطلق على رموزها وأحداثها.
ثوراتنا العربية في عصرها النهضوي الراهن، عانت جميعها تقريباً من سطوة هذه العاهة المشؤومة، وقد تعددت التعبيرات الاصطلاحية التي تطلق عليها من مثل انحراف الثورة أو تحريفها، اختطافها، سرقتها، وغيرها من مترادفات الثورة المضادة. كل هذه التسميات تطلق على أعراض واقعية، جعلت أهم الثورات تقبر نفسها بنفسها. تصبح هي العدوة الأولى لمبادئها، بل إن تحريفها بنيوياً داخلياً بأيدي بعض رموزها القيادية قد يوُدي بها كلياً، قد يلقي بها فريسة هيّنة في أيدي اعدائها. فمن هي الثورة الحقيقية الباقية بعد مسيرة التشويهات والمتغيرات المتضاربة التي عصفت بمسيرتها، ومع ذلك فالشعوب المضطهدة مضطرة للتمسك بحبال النور الضئيلة التي ظلّت تلوح بها الثورة وهي في آفاقها البعيدة، دون أن توحي بها وقائعُها الراهنة. ذلك إن نَدْرة الثورات الحقيقية لا يزيد الشعوب يأساً من إمكان تحققها، هكذا صافيةً خالصة من شوائب الممارسة ومتاهاتها، بل على العكس فإن نَدْرة الثورة الحقيقية هي علامتها الفارقة، والتي لا تتجلى إلا لمن يستحقها من صفوة الشعوب النادرة هي أيضاً، الموصوفة بالتاريخانية، لأن ما سوف تصنعه ثورات تلك الشعوب، لن تخصهم وحدهم، فإنها تصنع أو تشارك في صنع تاريخ الإنسانية من حولها.
وحتى لا نذهب بعيداً في تعداد أمثلة عن هذه الاستثناءات الكبرى، عالمياً أو قومياً، علينا أن نجدد اعترافنا بالخاصية العالمية لثورة الربيع العربي الذي هو أحدث حركة تحرير وطنية وشعبية تداهم ثوابت السياسة الدولية، وتهز كيانات أباطرتها الكبار، فليس صدفة أن يلتقي الروسي والأمريكي على صعيد واحد ومشترك للتوافق الاستراتيجي البعيد المدى، كيما يتصديان معاً للربيع العربي، لحركة تحرير الشعوب المعاصرة من عبودية الاستبداد الشمولي أينما كان وكيفما تبدَّى في ظواهره السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، فما من دولة عظمى في هذا العصر، إلا ويعيش زعماؤها المالكون لمقدراتها، هواجس الخوف من أشباح التغيير الجذري الذي يتلامح على شفا الهاويات الأخيرة لأسطورة التقدم إلى ما لانهاية، المزعوم.
ليس ثمة أمة حية في عالم اليوم لا تعاني من عنف الانفصام الذاتي الاجتماعي في كيانها الإنساني والقانوني معاً. فلقد اكتشف عقل العالم أخيراً أن الإنسانية موحدة فيما يصيبها من أوبئة الظلم النابعة من ظروفها الخاصة. فالاستبداد ليس وقفاً على المجتمعات ماقبل المدنية. فهو الظاهرة الأكثر عمومية وانتشاراً في مختلف حضارات المعمورة وتاريخها، غير أن الثقافات المتقدمة تصطلح على الاستبداد بتعابير تجريدية كالصراع الطبقي والتمييز العنصري واستراتيجيات العنف الجماعي، بدءاً من العلاقات المهنية إلى مستوى النزاعات العسكرية. فما يحدث لأوربا اليوم أنها مزقت فجأة كل أقنعة الرفاه والنعيم المزيفة، وباتت تواجه عودة بائسة إلى عصر ما قبل الرأسمالية، إلى فقرها القروسطي. هذا الفقر الجديد القديم هو الشكل الأصلي للاستبداد. إنه الطاحونة المنتجة لشتى أصناف المظالم الفئوية والجماعية، ليس لدى أرقى حكومات العالم، كالاتحاد الأوربي الراهن، من فنون التغلب العلمي على افات الفقر المداهم، وقطع الطريق أمام مظالمه القادمة، سوى تبني سياسة ‘التقشف’ التي هي إقرار منظم بحتمية الافتقار، أقصى ما تأمله أكثرية الاتحاد الأوربي هو أن تنجح حكوماته في توزيع حصص الفقر على مجتمعاتها بحسب ما حفظته ذاكرتها من بقايا مبادئ العدالة والمساواة.
هذا الفقر (الغربي) المحتوم الذي لا رادَّ لإرادته الجامحة هو عين الاستبداد، هو أحدث وجه عصري له، تقوم ضده تظاهرات ملايين الفقراء الجدد، احتجاجاً على (استبداد) التقشف في معظم عواصم الغرب، إنها طلائع ‘ربيع’ أوربي لا يعرف بعد كيف يسمي نفسه، لكنه يبدأ برفض سياسية التقشف التي باتت تعني أمراً واحداً، هو قبول المجتمع بتطويع ذاته، بخضوعه لمبدأ الافتقار الذاتي كنظام دفاعي ضد الفقر العام..
إنه الاستبداد (المودرن) الذي يجعل أتباعه يخترعون طوعياً وتلقائياً ثقافة التسويغ لتلك التبعية، لكن هذا الانصياع الاجتماعي للنظام العام الذي (كان) من أعلى مفاخر المدنية الغربية هو الذي يفتقد أخيراً بداهته لدى طلائع الغرب الشابة والمثقفة. يبدو حلف هؤلاء الشباب مع المثقفين هو الذي تنعقد أواصره بصورة عاجلة وتلقائية، كأنما ربيع أوربا لم يعد منتظراً مواسم الربيع العربي في أوطانه العاثرة، قد يسبقها، بل يتجاوزها. وقد يساعدها مستقبلاً بتحييد أنظمته الحاكمة الجديدة عن التدخل المشبوه في مقدرات إنجازاتها.
لكن حين تحين مثل هذه الإنعطافة ـ الخيالية، فإن الربيع العربي واقع في حبائل الأنظمة الغربية التقليدية القائمة، ومعها يبرز النظامان الروسي والصيني اللذان اعتنقا عن سابق تصور وتصميم عقيدة التجديد لسلطان الاستبداد الكوني، وإن كان تحت توصيفه بالمذهب الليبرالي. ما يمكن قوله راهناً هو أن الربيع العربي فجَّر حركة تحرير كونية، تعدّت ساحاتِه وأحداثَه، لكن بالمقابل فإن حرّاس هذا النظام العالمي التقليدي هم الذين استشعروا خطر هذا النوع من ثورات الشعوب التي لا تكتفي بإسقاط أنظمة وحشية محلية بالية، بل تزعزع نظاماً إقليمياً كلياً. والمقصود هو نظام الشرق الأوسط الذي أصبح في مهب الريح، وإذا ما تغيّر هذا الشرق الأوسط بيد أبنائه أخيراً، ورغماً عن أنف وكلائه المفروضين، فإن النظام العالمي نفسه قد يفقد محور ارتكازه الاقتصادي التاريخي والاستراتيجي. ما لم تقبله أمريكا زعيمة هذا النظام ، هو أن تتقاذف رياح الصحارى العربية مفاتيح ثرواتها في جهات الأرض الأربع. فالنفط والسلاح والمال.. وإسرائيل، هي الأعمدة الأربعة للعصر الشرق أوسطي، والذي هو بدوره ملكية خاصة للرأسمالية الأمريكية وبعض شركائها المحليين.
من هنا ينبغي للمثقف العربي أن يذكّر ثوار الربيع العربي الأصلييين أن عليهم ألا يغفلوا لحظة عن قاعدة القواعد في مشروع أي تغيير يصيب نظام الأنظمة العربية القائمة، لا بد أن ينجز حساباً مسبقاً لردود فعل هؤلاء المالكين الكبار للحمولة الشرق أوسطية بتمامها. فأمريكا مثلاً لم تكن مترددة أو حائرة، كما كان يبدو على سلوكها إزاء النظام الأسدي في دمشق. ولا هي حازمة أمرها عندما تخلّت عن دعم نظام الأَخْوَنَة في القاهرة. ما يقلقها حقاً هو اليوم التالي على كل ثورة أو تغيير سلطوي، لعلّ تساؤلها الباطني يدور غالباً حول من هو الشخص أو النظام البديل الذي سيحوز على استحقاق وكالته عنها. ليست هي الإيديولوجيات لاعبة أدوارَ القرار في مسائل حسم هذه الوكالة، ذلك أن الربيع العربي بات يعصف في خطوط الدفاع الأولى عن الإمبريالية التقليدية التي تحس أن أصداء النيران العريبة تخطت أسوار قلاعها، وأن بعض شراراتها تكاد تصل إليها وهي في عقر دارها بالذات. فالربيع العربي سيكون يوماً ما، ربيعاً أوربياً وأمريكياً.. هذا ما يتنبأ به فكر غربي راح يعلو صوته تدريجياً.

‘ مفكر عربي مقيم في باريس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبدربه خطاب:

    1. ياأستاذنا الكريم صاحب الفكر الثاقب نناشدك بالتركيز هذه الأيام على هذه الهجمة الرهيبة ضد هويتنا وعقيدتنا اللذان هما أساس وجودنا . انهم يعتبرون الانقلاب العسكري في مصر بمثابة الضربة القاضية على آمال شعوبنا في تحقيق اهداف ربيعنا الثوري. ونحن الملايين من شباب هذه اأمة لا نصدّق هذا الواقع المفروض بين عشية وضحاها !، فلدينا من طاقات الصمود والتحدي وبذل الارواح والدماء ما يكفي ويزيد لافشال مخططات عدونا في الداخل المسنود بكل انواع الدعم من الامريكان والصهاينة والغرب الصليبي الاستعماري . نحن امة ترفض الذلة والمهانة والخنوع والتاريخ شاهد على ذلك . سوف نستعيد انفاسنا قريبا ونسترد عافيتنا بعد هذه الصدمة الكبرى ولكننا في امس الحاجة الى اعلام قوي يقف في وجه اعلامهم المضلل الكاذب . وياسيدي لا يهمنا في هذه المرحلة وصول ربيعنا لثوري الى اوروبا !! ما يهمنا هو حماية هذا الربيع من حشود الجراد الذي بدأت تأكل الأخضر واليابس في مصرنا الغاليه

إشترك في قائمتنا البريدية