يَعبرونَ الجِسرَ في الصبحِ خفافا أَضلُعي امتَدَّتْ لَهُم جِسْرا وطيدْ مِن كُهوفِ الشرقِ، مِن مُستنْقعِ الشَرقِ إِلى الشَّرقِ الجديدْ أَضْلُعي امْتَدَّتْ لَهُم جِسرا وطيدْ (خليل حاوي)
مرةً أخرى تتساقط القذائف على رؤوس الفلسطينيين في غزة؛ بعد أن اقتحمت قوات الاحتلال مدينة جنين لتسقط شهداء وأقدمت، مرةً أخرى ـ لن تكون الأخيرة ـ على استباحة الأقصى في تحدٍ مستمرٍ وتصميمٍ ومضي على المزيد من التوسع في الاستيطان على حساب إقصاء الفلسطينيين وقلعهم من أراضيهم وطردهم من منازلهم، وإجبارهم على الرحيل، ومن الضروري ملاحظة أن ذلك لا يحدث خلسةً أو احتيالاً، بل إن حكومة نتنياهو الأكثر يمينيةً تعلن نيتها هدم أحياء في القدس والضفة جهاراً نهاراً.
مرةً أخرى، أقول، لأنني أعلم يقيناً أنها لن تكون الأخيرة في ظل الوضع العربي الراهن، كما أعلم وأعترف بأن ذاكرتي لم تعد تسعفني برقم هذه العملية، فقد كثرت وأخواتها وفاضت؛ لعل التطور الحقيقي يكمن في فتور الموقف الرسمي العربي، فقد صار لا يبذل حتى جهداً ليبدو مقنعاً، مضى ذلك الزمن الذي كان يجأر بالصراخ، شاجباً مديناً مندداً، في ما كان مثار تندرٍ، لاسيما وأن الغالبية العظمى من الجمهور العربي كانت توقن بأن أياً من الأطراف لا يأبه فعلاً، إلا أنها كانت على الأقل تلتزم بدورها في العرض.. أما الآن فإنها إما قد سئمت أو أرهقتها أزماتٌ متكررةٌ هي صانعتها، أو لم تعد تعبأ حتى بالتظاهر انطلاقاً من قناعةٍ لا تفصح عنها، بأن تلك قضيةٌ ميتة، أو في سبيلها إلى ذلك، وأن المسألة لا تعدو مسألة وقت حتى تقوم إسرائيل، قلعة الاستعمار المتقدمة وعدونا اللدود في ما سبق، والحليف الإقليمي المهم (بل الأهم بالنسبة لبعض الأنظمة كالمصري والأردني الآن.. وغيرهما) بتصفية القضية، والمشكلة عن طريق تصفية الكتلة البشرية الباقية.
تأثير الثورات، مهما شُيطن ووُجه له اللوم، غرس في الوعي والمخيلة الجمعية الكثير من المفاهيم وهز القناعات الراسخة واستبدلها بالأسئلة والطرح والحصاد آتٍ
بيد أنه من اللافت والمؤسف في آنٍ معاً أن الجمهور الأوسع قد اعتاد أيضاً على هذه الاعتداءات، فألِف الاقتحامات والقصف وسقوط الشهداء.. ألِف الإهانة ورخص الدم العربي والحياة البشرية.. كما لو كان قد سئم أيضاً أو فقد الأمل. كل ذلك يصب في تيار «التبلد» الواسع.. شيئاً فشيئاً يتبلد الناس، كأنهم يعكسون بلادة الأنظمة. مصر أيضاً تعيش في ظل نظامٍ شديد البلادة، لا يحاكيها سوى القسوة والعنف المفرطين، فالناس يزداد فقرهم وجوعهم، يفترسهم الخوف من المقبل، من الغد، وكل البوادر توحي بخروج الوضع الاقتصادي عن السيطرة، على الرغم من طمأنة الحكومة التي لا تملأ جيباً ولا تسد جوعاً، إلا أن النظام الذي يعيش حالة ازدواجيةٍ في ما يبدو، تصدر عنه إشاراتٌ توحي بالتوتر تارةً، إلا أنه يتعامل مع الوضع ببلادةٍ تثير العجب، وكأنه قرّ في يقينه أن المشاكل ستحل نفسها بنفسها، وأن الحال سيتعدل ويعيد إلى نفسه اتزانه من تلقاء نفسه؛ كأنه يؤمن إيماناً فطرياً بيد السوق الخفية، أو أن لسان حاله أن أثماناً لا بد من أن تُدفع في طريق الإصلاح الاقتصادي، وأن الفقراء الذين يتلقون الدعم، أي الذين يشكلون عبئاً على المجتمع والاقتصاد، لا محيص عن انقيادهم للقيام بدور الضحية وتسديد ذلك الثمن، من دون أن يُعَرِفَ أحد معنى «الإصلاح» الاقتصادي، أو كيف وصلنا إلى تلك الحال المتردية، أو يبرر أن يكون ما يزيد عن نصف السكان عبئاً، وقد يظن البعض أن ذلك صادرٌ عن محض صفاقة البورجوازية المصرية والطبقة الحاكمة والنظام، إلا أن الحقيقة أنه على الرغم من توفر تلك الصفات فيهم، إلا أن الأساس هو البلادة وعدم الاكتراث، فالنظام وقد هزته ثورة يناير/كانون الثاني، إلا أنه بعد أن نجح في هزيمتها تأثر بدعايته وصدق أن ثورةً أخرى مستحيلة، وأن ميزان القوى المستقر في صالحه، حاميه دائماً وأن في مقدوره السيطرة على أي قلاقل، أو بوادر تمرد حقيقي. وغير خافٍ بالطبع أن سائر البلدان العربية تشاركنا في حال البلادة ومصير الهزيمة هذا، فهي في المجمل، إما تمزقها (أو مزقتها بالفعل) الحروب والصراعات الأهلية، أو الحكم الشمولي تحت مختلف اليافطات والشعارات، بل أثبت بعضها أن الهزيمة صارت خياراً استراتيجياً ورهاناً يتصورون أن وضعهم الضعيف والحرج أمام شعوبهم، التي لم يعد بالإمكان إخفاء حقيقة الفشل وواقعه المرير عنهم، وإن أقرب مثالٍ لذلك هو التقارب وإعلان نية التطبيع بين السودان وإسرائيل.
في الخلاصة نحن أمام واقعٍ عربيٍ مهزوم وبليد، شعوبه العريقة مرهقةٌ ومستنزفة، هزمتها الأنظمة قبل العدو الخارجي، هزمتها وشوهت وعيها وزيفته وشوهت نفوسها من أثر القهر والقمع والأكاذيب التي لا تنتهي؛ أمام منطقةٍ سعت، أو زعمت أنها تسعى، إلى صيغةٍ ما للوحدة ( مع تفاوت التصورات) وتنسيق العمل ليكون لها ثقل وصوت على الصعيد العالمي، فها هي منقسمةٌ تماماً وتتشظى أمام أعيننا رازحةً تحت أنظمةٍ سلمت تماماً بالتبعية، ولا يفاوض بعضها، إن تجرأ، إلا بما تبقى من الأوراق كالسعودية مع الولايات المتحدة بكميات ضخ النفط، ومن ثم سعره، أو النظام المصري الذي يهدد ضمناً أو تصريحاً بالفوضى وكارثة مهاجرين إذا سقط.
في مرحلةٍ ما، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، على وقع استقلال هذه الدول واحدةً تلو الأخرى، كان هناك إدراك (سبق الاستقلال الفعلي في حقيقة الأمر) بأن ثمة أزمةً اجتماعية اقتصاديةً عميقة بتجلياتها الفكرية وما نتج عن جدل بينها جميعاً، ممتدة الجذور في التاريخ، حيث أسبابها، هي التي هيأتنا وأهلتنا للاستعمار. كان هناك إدراك بأن شرقنا الذي كان، مبهراً مصدراً للعلم والفكر، صار مستنقعاً..
وكان هناك أمل. كل ذلك تبخر تماماً، وليست هذه مبالغة، فالأكيد أننا تقهقرنا للكهف ولم نبرح ذلك المستنقع، بل علقنا فيه زيادةً، وتشبثنا به وبأفكاره، كما هو أكيد أن السبب الرئيسي هو تلك الفجوة الشاسعة والمتسعة التي تفصل بين أنظمةٍ صارت في حالة ريبةٍ وعداءٍ صريحٍ أحياناً وتحت السطح طيلة الوقت مع شعوبها. لقد قبلت هذه الأنظمة بأن تظل هذه المنطقة «ذيليةً» للمشروع الغربي، في خانة المفعول به في مقابل الدعم والتغاضي عن التجاوزات والسرقات والإثراء الفاحش، لذا فإن تصور الإصلاح من داخل هذه الأنظمة وهم الأوهام في رأيي، فليس لديها ما يحفزها لذلك، بل إن مصالحها في تعارضٍ مباشر مع ذلك. يجوز أننا نفتقر لقوى تغيير منظمة، لكن ذلك لا يعني أن هذه الأنظمة ستصلح ناهيك عن كونها صالحةً للبقاء. ومن دون تغيير، سيزاد الفقر وتزداد البلادة والبؤس، إلا أن الأمل دائماً موجود، فيوماً ما ستأتي الشرارة من حيث لا نعلم لتضرم ذلك القش، لا يعلم أحد من أين ستأتي، فمن كان يتوقع أن شاباً في تونس سيشعل المنطقة بأسرها، كما أن الأكيد أن تأثير الثورات، مهما شُيطن ووُجه له اللوم، قد غرس في الوعي والمخيلة الجمعية الكثير من المفاهيم وهز القناعات الراسخة واستبدلها بالأسئلة وأن الطرح والحصاد آتٍ أيضاً.
كاتب مصري