في مشهد اختطاف حراكات وثورات الجماهير العربية تتكرر حبكة الرواية المسرحية إياها. ما يتبدل هم الممثلون وديكور المسرح، وإضافات أخرى هامشية لا تمس جميعها جوهر المسرحية الأصلية.
يثبت يوما بعد يوم أنه ما أن ينجح حراك جماهيري تغييري جذري، وما أن تتراجع قوى التسلط والفساد، ويبدو المستقبل مشرقا ومبشرا، حتى تقحم في المشهد، بتعنت وخبث وخلسة، إما خلافات أيديولوجية أو صراعات دينية أو طائفية، أو عوامل سياسية ظرفية أو فزاعات اقتصادية ومالية.
فجأة يخفت وهج الحراك الجماهيري، ويلعب الإعلام الموجه والمأجور لعبة إدخال الشعارات التغييرية الواضحة، في متاهات الشكوك والخوف والتردد والتشوية المتعمد، ليصبح الموضوع المقحم، أو الطارئ في قمة الأولويات المستعجلة، ويتراجع ما تبنته الجماهير من جوهر وعلاج جذري إلى الوراء، بل إلى آخر قائمة الأولويات.
ولما كان الوعي السياسي لدى الجماهير الشعبية العربية محدودا وظرفيا في الغالب، وبالتالي هشا، تنجح المسرحية في بلبلة ذهن المشاهدين، وتتبدل الرواية المسرحية من كينونة جادة هادفة، إلى أن تكون هزلية عابثة مملة، يتركها نصف الحاضرين، ويتثاءب أثناء مشاهدتها النصف الآخر. كان واضحا منذ البداية أن الذي وراء المؤلفين والممثلين، والذي ينتفع أكثر من غيره، والذي يقحم العوامل المفرقة والمحبطة والمشوهة التي ذكرنا، هو التكوينة المترابطة المعتمدة من المصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية الأمريكية في الدرجة الأولى، مدعومة من وخادمة للمشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني، وبتناغم مريب من قبل بعض الجهات العربية، سواء بقصد انتهازي ظرفي أو بدون قصد بريء جاهل في أمور السياسة، ولذلك لم يكن مستغربا أن تثبت الأيام والنتائج السلبية لغالبية ما بعد الحراكات الجماهيرية أن ذلك الأخطبوط التدخلي المتآمر على هذه الأمة، استطاع أن يخترق ويستعمل بعض القوى السياسية المدنية العربية الساذجة، وبعض جهات الاستخبارات، وبعض مصادر الثروة العربية غير المنضبطة المغامرة، بدون وعي والتزام قومي… أن يخترقها ويستعملها في الدفع نحو ارتكاب الأخطاء الفادحة، أو في تجييش وتسليح قوى العنف والإرهاب المجنونة. السؤال الأساسي هو: كيف تحاك تلك المسرحية وما العامل الذي يسهل حياكتها؟ العامل الأساسي هو في سماح الغالبية الساحقة من الأقطار العربية، أن تكون في وضع مالي أو عسكري أو جيوسياسي تلعب الولايات المتحدة الأمريكية، في تأزيمه أو في الخروج منه، دورا مفصليا لا يمكن الاستتغناء عنه، سواء تعلق الأمر بحاجة القطر لقرض مالي من أحد المؤسسات المالية الدولية، أو أحد البنوك الكبيرة العولمية، أو حاجة القطر لدعم لوجستي أمريكي في خلافه مع دولة إقليمية، أو في تورطه في حرب إقليمية، يجد ذلك القطر نفسه أمام حاجته للحصول على عون أمريكي مادي، أو حصوله على مباركة أمريكية سياسية أو استخباراتية. وهنا تبدأ سلسلة الشروط أو الابتزازات الأمريكية تلعب دورها، سواء مع نظام عربي، لم تستطع الحراكات الجماهيرية استبداله، أو مع قوى جديدة نجحت في أن تصل إلى الحكم، أو في لعب دور بارز في الحياة السياسية الجديدة لهذا القطر أو ذاك، تلك الشروط وتلك الابتزازات الأمريكية تحتاج في الغالب إلى أن تلبي حاجات وأهداف الكيان الصهيوني، أو قواه الهائلة في واشنطن وبعض العواصم الأوروبية، وأحيانا تحتاج إلى مباركة أو سكوت، أو دعم من قبل بعض العرب، سواء بسبب متطلبات جنون الصراعات العربية البينية، أو بسبب تحليلات سياسية مرتبكة من قبل هذا المسؤول العربي أو ذاك.
وعند ذاك تحاك المسرحية ويهيأ المسرح ويدرب الممثلون وتطفأ الأنوار.
ما أن ينجح حراك جماهيري تغييري جذري، حتى تقحم في المشهد خلافات أيديولوجية أو صراعات دينية أو طائفية أو…
حدث ذلك المرة تلو المرة في كثير من المشاهد العربية. واليوم نراه أمامنا في أفضل صورة في المشهد السوداني المؤلم. هناك، كتب الكثير عن نقاوة واستقلالية وشمول الحراك الجماهيري السوداني، وهناك كان يوجد أمل في أن تكون موازين ومعايير الوضع الجديد وطنية وقومية تحررية، لا تخضع للابتزاز، أو التشويه المتعمد. لكننا فوجئنا بعودة التمثيلية إياها: حاجة للعون المالي والجيوسياسي الأمريكي وللعدول عن ابتزازاته السابقة، فهم خاطئ بأن الكيان الصهيوني هو مفتاح العون الأمريكي ذاك، تتبعه مصافحة مع يد مجرمة تقطر منها بغزارة دماء الشعب الفلسطيني العربي، شقيق الشعب السوداني العربي، وننتهي بانتكاسة قومية مفجعة لحراك وطني سوداني كان ملء العين والبصر. سيناريو الابتزاز الأمريكي المربوط بسيناريو التطبيع مع الكيان الصهيوني، أصبح كابوسا يحتاج إلى أن يصحو العرب منه قبل أن نصبح أضحوكة لكل متفرج في كل مسرح، عبر العالم كله.
كاتب بحريني