حرب أوكرانيا تزحف إلى نهايات عامها الثاني، ومن اليوم وحتى موعد الذكرى المقبلة لبدء الحرب في 24 فبراير 2024، لا تبدو حظوظ الغرب سعيدة في الميدان الأوكراني، فقد انتهي وقت الاستخفاف بالروس في عام الحرب الأول، وبدأ الروس من بعدها في حال الكمون، اللهم إلا من معارك سيطرة «فاغنر» على سوليدار وباخموت، في معركة مريعة، بينما راح الروس بعد ضربة خاركيف، وقرارهم بترك غرب خيرسون أواخر العام الماضي، يعدون لشيء آخر، يجدد الاستفادة من دروس الحرب العالمية الثانية، وبنوا خطوط دفاع حصينة على جبهات القتال، كان صاحب الفضل فيها الجنرال سيرجى سوروفيكين، وهو الملقب في روسيا بالجنرال «هرمجدون»، أو جنرال يوم القيامة، وقد نجح الرجل في إعادة تنظيم شاملة، وجعل من نهر دنيبرو مانعا مائيا طبيعيا، وبهدف خفض الخسائر البشرية لقواته إلى الحد الأدنى، وهو ما بدا هدفا للجيش الروسي كله في العام الثاني، مقابل استنزاف مهلك للخصم في الجنود والمعدات، على النحو الذي بدا ظاهرا في ما بعد، حين بدأ الغرب هجومه «المضاد» من وراء قناع أوكراني بعد طول انتظار، وبعد وعود متعجرفة بطرد الروس من الدونباس، ومن شبه جزيرة «القرم»، بدت كلها سرابا، بعد نحو أربعة شهور من بدء الهجوم، الذي تحول إلى حفرة سوداء، تبتلع عشرات الآلاف من الجنود، وإلى محرقة مرعبة لأسلحة الغرب فائقة التطور، وبدت محارق دبابات «ليوبارد ـ 2» و»تشالينجر ـ 2» وغيرها، وكأنها جنازات حارة لسمعة الأسلحة الغربية، التي قدم «الناتو» منها 600 نوع، تضاف إليها صواريخ «أتاكمز» الأمريكية و»توروس» الألمانية ودبابات «أبرامز» وطائرات «إف ـ 16» وغيرها، التي توعدها الكرملين بأن تلقى مصير المحارق نفسه.
وقع الغرب في محنة ورط فيها نفسه، وأراد أن يحول أوكرانيا إلى أفغانستان أخرى للروس، فإذا بها تتحول إلى أفغانستان ثانية للأمريكيين ولحلف «الناتو»
وبعيدا عن تفاصيل المعارك اليومية، لا يبدو المشهد العام مبشرا بفرصة لنجاح الغرب، وقد حدد هدفه من البداية، وفي تصريحات رسمية تماما، جعلت الهدف إضعاف روسيا وتفكيكها، ومحو عصر الرئيس فلاديمير بوتين، ودفع الروس لإزاحته عن الحكم، وقد سرت نغمة تفاؤل في عام الحرب الأول، أغرت بها اضطرابات وعشوائيات أداء للجيش الروسي، وقرارات الانسحاب من حصار كييف، ثم الانسحاب المخزي من شرق مقاطعة «خاركيف»، والاستهتار الروسي بعنف وقوة المقاومة الأوكرانية المدعومة من الغرب، التي تغلب عليها الروس بصعوبة في مدينة ماريوبول، وحولوا «بحر آزوف» إلى ملكية روسية خالصة، لكن المتاعب اللوجيستية للروس ظلت ظاهرة، ودفعت قادة غربيين لإعلان نصر متعجل، ترجمه القول بأن الجيش الروسي تكشفت حقيقته، وأنه لم يعد الجيش الثاني في ترتيب جيوش العالم، بل «الجيش الثاني» في أوكرانيا، ثم إطلاق تعبير أنكى، يصف الجيش الروسي بأنه في الترتيب الثاني داخل روسيا نفسها، في إشارة إلى ما تصوروه من تفوق جماعة «فاغنر» وقت زحفها إلى موسكو أواسط العام الجاري، وفي ما عرف بـ»انقلاب فاغنر»، ثم تكشفت الغشاوات كلها، وتلقى الغرب أكبر مقلب شربه في الصراع، وظهر أن بوتين تصعد شعبيته وقوته في ثبات مذهل، خصوصا بعد احتراق يغفيني بريغوجين» (قائد فاغنر) في حادث طائرة غامض، ثم بدت خيبة التوقعات الغربية عظيمة، مع الأداء المتفوق للجيش الروسي في صد الهجوم المضاد، وفي إدارة خطة دفاع نشيطة، جعل الغرب يقيم الليالي الملاح لمجرد تقدم الجيش الأوكراني بضعة أمتار، وفي قرى صغيرة مهجورة، مثل رابوتين في زباروجيا، أو كليشفكا جنوب غرب باخموت وأمثالها، وكلها تقع في مناطق الكر والفر الرمادية على خطوط التماس، ولا تعني اختراقات من أي نوع لخطوط الدفاع الروسية، فقد صاغ الروس خطتهم ببساطة، وجعلوا الهدف الأول في استنزاف الأوكران وأسلحتهم الغربية، وهو ما حققوا فيه إنجازا باهرا، تجاوز معنى إفشال الهجوم المضاد، وجعل أوكرانيا تصرخ من تبديد الموارد البشرية العسكرية، وإلى حد دفع رئيس الإدارة العسكرية في مقاطعة «بولتافا» الأوكرانية مثلا، إلى إصدار ما يشبه النعي الصادم للجيش الأوكراني، إذ قال: إن ثمانين إلى تسعين في المئة من المجندين من مقاطعته قتلوا، وقس على ذلك ما جرى لكل القوات، وبالذات قوات النخبة الأوكرانية، التي تزهق أرواحها بالجملة في مصائد الروس، وتجعل الحشد من أجل الحرب بالغ الصعوبة، ولأن الهزيمة يتيمة، فقد راح الرئيس الأوكراني زيلينسكي يقيل معاونيه بالجملة، ربما لينجو برأسه ويحملهم عار الهزيمة، على طريقة إقالته لكل مسؤولي إدارات التجنيد العسكري في المقاطعات، ثم إقالة وزير الدفاع ريزنيكوف وستة من نوابه السبعة، واتهامهم جميعا بالفساد والسرقات وخراب الذمم، وتصور أن بوسعه إعادة تقديم نفسه للغرب، وطلب مدد جديد لا ينقطع، تناهز قيمته إلى اليوم نحو خمسمئة مليار دولار، قدمت واشنطن أكثر من ثلثها، وذهب زيلينسكي إلى أمريكا في حملة ابتزاز واستجداء جديدة، لكنه لم يلق الاحتفاء الذي حظى به في ديسمبر 2022، حين ألقى خطابه الشهير في الكونغرس، وتقمص روح الزعيم البريطاني ونستون تشرشل، لكن الكونغرس رفض هذه المرة طلبه بإلقاء خطاب مماثل، وبدعوى أن المشرعين الأمريكيين مشغولون بقضايا أخرى، فيما وعده الرئيس الأمريكي جو بايدن بسرعة تسليم دفعة من دبابات «أبرامز»، وصلت لأوكرانيا بالفعل، وبعدد 11 من إجمالي 31 دبابة فقط، لا تعنى خطرا منظورا على القوات الروسية، التي تنتظر احتفالها بإرسال «أبرامز» إلى الجحيم، ولا يبدو أن بايدن سيتمكن بسلاسة من توفير 24 مليار دولار، وعد بها لدعم أوكرانيا عام 2024، مع أنه في مأزق يشبه مأزق زيلينسكي، فهو على عتبة عام الانتخابات الرئاسية، ويريد أن يثبت جدوى رهانه في أوكرانيا، بينما يتراجع تأييده في دوائر الرأي العام، وينتظر حدوث معجزة صعبة التحقق على ما يبدو، لا تجلبها المبالغات الدعائية في انتصارات موهومة، على طريقة ما جرى في الهجمات المنسقة على شبه جزيرة القرم، وإعلان أوكرانيا عن مقتل قائد الأسطول الروسي في البحر الأسود الأدميرال فيكتور سوكولوف، ثم ظهور الأدميرال في اجتماع بالفيديو صباح اليوم التالي مع وزير الدفاع الروسي سيرجى شويجو، وبدا اللجوء الغربي إلى تصديق أكاذيب الأوكران وخرافاتهم مفهوما، فهم يتعلقون بقشة، ويرغبون في التعويض النفسي عن خيبة الأمل في الواقع العسكري، بينما يبدو الروس في حال الثقة المتزايدة، فقد قرروا من شهور، أنهم مستمرون في الحرب لأعوام، وأعادوا بناء وتنشيط صناعاتهم العسكرية، وصنعوا أجيالا جديدة من الطائرات المسيرة «الانتحارية»، ويحاربون في أوكرانيا بعدد من القوات لا يتجاوز المئتي ألف، أغلبهم من المتطوعين والمتعاقدين، بينما يحتفظون بالجانب الأعظم من الجيش الروسي خارج الميدان الأوكراني، ربما استعدادا لاحتمالات توسع الحرب، وانزلاق الحوادث إلى مواجهة مباشرة مفتوحة بين روسيا وتحالف «رامشتاين» المكون من خمسين دولة، وقد بدت استعدادات الروس مذهلة للدوائر والميديا الغربية، فلم تتأثر روسيا كثيرا بعقوبات الغرب الاقتصادية، وبدت قادرة على مضاعفة إنفاقها العسكري، وتمويل عمل مصانعها العسكرية لثلاث ورديات في اليوم، وهي تنتج في العام الواحد ما يصل إلى ثلاثة ملايين قذيفة مدفعية، فوق طفرات التطور التكنولوجي في المعدات والصواريخ والطائرات، بينما لا تستطيع دول «الناتو» مجتمعة، أن توفر مليون قذيفة لأوكرانيا في العام، وتبدو عليها علامات الإرهاق والتململ من ثقل الأعباء الحربية، وإلى حد وصف الرئيس البولندي أندريه دودا للرئيس الأوكراني، بأنه مثل غريق يشد معه إلى القاع كل من يتقدم لمساعدته.
وبالجملة، فقد تطيل الأسلحة الغربية المتدفقة كالسيل، من القذائف العنقودية إلى قذائف اليورانيوم المنضب، إضافة للصواريخ بعيدة المدى على اختلاف مصادرها، وجيوش الفيالق الأجنبية، والخبراء والمخططين الغربيين وخدمات الأقمار الصناعية بما فيها شبكة «ستار لينك»، والمشاركة الأمريكية الميدانية في الهجمات على القرم بالذات، قد يطيل ذلك كله وغيره من زمن الصدام العسكري، لكنه ـ غالبا ـ لن يغير المقادير النهائية للحرب، ولن يسعف الغرب في محنة ورط فيها نفسه، وأراد أن يحول أوكرانيا إلى أفغانستان أخرى للروس، فإذا بها تتحول إلى أفغانستان ثانية للأمريكيين ولحلف «الناتو»، فقد توارى حلم هزيمة الروس، الذين يبدون ثقة وصبرا وتطورا، يستلهم الدروس من الهزائم، ويحولها إلى وقود للنصر، وفي كل الحروب التاريخية الكبرى مع الروس، كانوا يهزمون فيهزمون ويهزمون، لكنهم لا يتراجعون أبدا عن هدف تحقيق النصر الأخير.
كاتب مصري