هزيمة النسر

إن ما هو حقيقي قد لا يكون محتملا أحيانا، ومع ذلك فهو ضروري للجميع، لأنه لا أحد منا يعيش خارج الوجود. يُحكى عن فلاح كان لزاما أن تُجرى له عملية جراحية، ولأنها مستعجَلة ومؤلمة جدا، شرح له الطبيب أنه سيشعر بألم شديد، وقدّمَ له منديلا كي يعض عليه بينما يجري له التداخل الجراحي. رفض الفلاح القيام بذلك، وقال: «أنا أتكفلُ بالألم»، عانى العملية حتى آخر لحظة، دون أن يُلاحَظ أي تغيير في وجهه. يصف بورخيس تعبيره هذا بأنه يليق بالفيلسوف سينيكا.
لا يرى أحدنا التعابير التي تُرسم على محياهُ في ساعة العذاب، ببساطة لأنه لا يقف وقتها أمام المرآة. وبالنسبة لي، فقد شاهدت الألم واضحا وعن قرب مرتين، الأولى على طلعة رجل كان يحمل زوجته بين ذراعيه، ودخل بها غرفةَ فحص المرضى، ومددها على السرير. أخبرتُه إنها ميتة، وقالت لي عيناه عندها إنه عليه أن يمر طوال السنين الباقية من عمره في خُرم إبرة الألم، ويبقى عوده ساكنا وثابتا، ككيان أبدي لا يطاله التغيير بأي صورة كانت.
المرة الثانية التي كنت شاهدا فيها على عذابات الوجود عندما مرّت عجلة مسرعة ودهست كلبا يعبر الشارع ورمته بالقرب مني. لم يمت الكلب، ولكن تغير الأسود المشع في إنسان عينه إلى لون الرماد فجأة، وظل يتلون في أنواع الرماد، لم ينبح، ولم يصدر عنه أي صوت. كان الحيوان يمر في تلك الوهلة خلال خرم إبرة الألم، فهو المكان الوحيد الذي لا يمكن لصوت أن يعيش فيه، ولا حتى وجْسَ (همس) تنهيدة.
«كل يوم أخط جراحي في كلمات
صفحةً صفحةً ينكتبُ العُمر»
اسم الكتاب هو «معمار البراءة» للشاعر كاظم جهاد، صدر عام 2006، متوفرٌ على «النتْ»، وفيه شرح وافٍ ومفصل لأطياف الألم النغار، منه النوع الذي تشهد عليه «تنهدات النسوة يخرجن للرب أثداءهن ضراعة وسخطاً»، وهو مشهد يعبر بالأحرى لا عن مقاساة العذاب، وإنما عن ميتافيزيقياه.
إن أقصر طريق لأفكارنا كي تصل السماءَ هي عندما يكون مصدرها أثداء النساء، والعضو الأكثر تأثرا بفقدان الابنة والابن هو ثدي المرأة، لأنه تعب في ما يبدو، والنبعان الصغيران يجريان ليل نهار، ثم صار مصير كل هذا التعب التراب. وماذا عن وجه الأم التي تقوم بهذا العمل، كيف يبدو؟ أبمقدور امرئٍ تخيل وجه إله، وهو يشتكي حظه السيئ إلى مجمع الآلهة؟ توزعت قصائد «معمار البراءة» بين شعر حر وقصائد نثر، واللافت أننا نقرأ على الغلاف «قصائد» اختصارا لهوية المحتوى، ولغة النوعين من الشعر واحدة، وهي نثر صافٍ ومصهور يشبه كثيرا ما يُستعمل في فن السرد، حتى يخيل إلى القارئ أن مؤلفه لم يكن ينوي كتابة الشعر عندما شرع في تأليفه. ليس المقصود هنا تشابه الشعر العظيم مع النثر، ولكنه نهاية عهدنا بما كان يسمى النثر الفني. شِعرُ كاظم جهاد عبارة عن كلام يومي وصحافي وغير ذلك، بالإضافة إلى لغة الشعر، ويمتلك هذا الخليط في الوقت ذاته الإيقاعَ الذي سوف يشكل الشاعر بفضله صدمة تجعل ذائقتنا تميزه عن غيره، فنبتعثه في دمائنا، ونترجمه عائدين به إلى تجربتنا الخاصة، لتمتلئ أفئدتنا بالشعر في ينابيعه الأولى.
لا يوجد تزيين لمعنى أول بمعنى ثانٍ وثالثٍ.. وأثر الصنعة واضح في عمل الشاعر، فليس مصدر القصيد ما بين الجوانح، بل مما اعتمل في الذات من الحياة، ومن العِشرة الطويلة مع كتب الفلسفة والفكر والأدب، ويذكرنا جو بعض شِعر كاظم جهاد بأبي تمام: «كان ينبغي أن نُكثر من الركض/ كان ينبغي أن نمزق السراويل… كان ينبغي أن تضمد جراحنا حبيبات/ ينهمرن من خواطرنا وأيدينا/ كان ينبغي الاقتران ببنات الأفكار». تتغير لغة الشعر بتغيرنا، وتقوى أو تضعف معنا، كما أن اللغة البسيطة ليست هي نفسها البليدة، ورغم الدور الخطير الذي تقوم به الكلمات في صياغة القصيدة، يبقى الأمر الأهم هو الإيمان بأن قوة الشعر لا تأتي من اللغة، وهي الوسيلة، وإنما من الشاعر، وهو الفاعل، أي أن القصيدة تقع مع التجربة الأدبية الحية على المحك، فغياب أحد طرفي المعادلة يحتم غياب الطرف الآخر: «وحده الشاعر الذي مرّ من خرم الإبرة/ إبرة الجرح اللاشفاء منه/ وحده المغني الهائم في آلامه/ يحمل لها كبة الخيوط».

القصيدة الأهم في الكتاب، أعطيتها عنوان هذا المقال: «هزيمة النسر»، فيها كل ما يريده القارئ من قصيدة النثر: التصوير والتكثيف والوقفة التي بإمكانها أن تُلبس الشاعر نظارات تشمل الأفق، كما أن أعظم الشعر هو ما احتوى قليلا أو كثيرا من فن القص: «لدقائق طويلة تقبع الفريسة بينَ مخالب النسر. بقدرِ ما يُضاعف النسر طعناته، ثملا بالنصر، تتأمل هي اكتنازها بالألم وتشعر بأنها غير قابلةٍ للانتهاك».

لقد هبط الشاعر بأمانٍ من فضاء ما يُدعى «فوق الشعر» إلى أرضه، وعاد القريضُ إلى سبيله القديم فعلاً يقوم به شاعر. لا توجد في كتاب «معمار البراءة» في دواوينه الثلاثة أفكار تشبه أوهاما باهتة، ولا أفعال من ترميمات بعيدة عن الاحتمال، أو افتراضات لا تعيش حتى في الخيال، وهذه السمات الثلاث هي أهم ما يميز قصيدة النثر الشائعة بالعربية، وكل ما تقع عليه العين صور بالغة التأثير رغم بساطة اللغة المستعملة، التي تقرُب من الركة، وكأن الركاكة صارت هي المقصد عندما يسير الشاعر على هذا الدرب ويصل.
«لم يكن ذلك عواء كلاب/ بل شبه نشيد جنائزي/ تطلقه الحيوانات في سُعارها الغريب/ باكيةً لا أحد».

الشاعر مولود في المدينة، لكنه قضى شطرا من عمره مقيما في الريف، وقد شهد حتما في ليالي الشتاء مثل هذا الحفل البكائي الصاخب تقيمه الكلاب، تشبه أرواح آلهة تجتمع لتعاتب كبير الآلهة على ما فعلته يداه: «ترمقُ (الكلابُ) القمرَ بنظرة شرسة/ ويجن جنونها وتبدأ/ عواءً طويلا/ يشرف عليه قائد أوركسترا/ لابد بين جموعها المتراصة». لاحظوا معي أثر المفردة الأخيرة في النص، أحالت الغناء إلى فعل بشري يصور التظاهرات التي تجوب الشوارع احتجاجا على عسف الحاكم وجوره وظلمه.
وهذه المرة مع الذئاب: «في المساء تعقد الذئاب/ حلقتها المعهودة/ وتُطلق عواءها الجنائزي/ ثم تتفرق وتبدأ بالعَدْو/ لتعودَ من بعدُ إلى ذاتِ النقطة/ وتستأنف عواءها الطويل».

الإنسان ليس في قطيعة مع الطبيعة، وإن اختار السبيل الأبعد عن جنتها، متوهما خلق فردوس له في السماء والأرض. وما نحن في الأخير إلا ذئاب وكلاب وأفاعٍ وخنازير، وكل ما هو مذكور في كتاب كاظم جهاد من حيوان الأرض والبحر والسماء، ومن المادة الجامدة أيضا: «من حقلٍ إلى سواه/ يتنقل الصبي.. بكاءٌ سري يتصاعد/ لا يدري من أية بقعة/ ذاهبا في كل اتجاه/ من عروق النخل يتفجر/ ومن ميازيب الغرف الطينية/ ينهمر.. لعله ضمير الأرض المشققة/ يُعرب عن نفسه».
القصيدة الأهم في الكتاب، أعطيتها عنوان هذا المقال: «هزيمة النسر»، فيها كل ما يريده القارئ من قصيدة النثر: التصوير والتكثيف والوقفة التي بإمكانها أن تُلبس الشاعر نظارات تشمل الأفق، كما أن أعظم الشعر هو ما احتوى قليلا أو كثيرا من فن القص: «لدقائق طويلة تقبع الفريسة بينَ مخالب النسر. بقدرِ ما يُضاعف النسر طعناته، ثملا بالنصر، تتأمل هي اكتنازها بالألم وتشعر بأنها غير قابلةٍ للانتهاك». هو «توثيق لألم بلا حدود»، كما يقول الشاعر في موضع آخر، فكيف يكون الحال إذا كان هذا العذاب طريقَنا الوحيدَ للخلاص؟ وسوف تنتصر الفريسة بواسطة ألمها على حالة الموات التي يكابدها الوحش المتنعم: «عندما يكتمل التهامُها من لدن النسر، يرسمُ الفضاءُ بالدم لطائفَ من المعنى يعجز النسر في تسارعِ البطش عن أن يُدركها. وهذا بالذات مكمن هزيمته». إن في الأمر شيئا من براءة الروح وهي تقاسي فعل الصلب. أليس كذلك؟ يقول النقد عن القصيدة والقصة الحديثة إنها تشبه شيكا مصرفيا، وفي إحدى صفحات دفتر الشيكات لكاظم جهاد نقرأ:
«ينبغي أن تكون لنا حَمية/ وعادات/ تليق بأصحاب الموتى/ أولئك الذين يقع على عاتقهم/ تطويبُ المنفى بالأغنية/ ويكون عليهم في كل لحظة/ إماتة الموت». تبحث في القواميس عن معنى «تطويب»، ولا تجد غير تفسير واحد: «إحدى خطوات تقديس شخص متوفى يتم اختياره من قبل البابا في الكنيسة» هل وجدت هذه المفردة سبيلها بالصدفة إلى صدر الشيك؟
لم يضع كاظم جهاد شيئاً من حياته الحاضره في شعره، ولا النزر اليسير. كل ما فيه يعود إلى الماضي البعيد. «ما يزال للذكرى فيكَ لسعُها القوي»، تقول له صديقته، وهو يتداوى بهذا اللسع لاسترداد كيانه الذي تمزق في المنفى، وصار الوطن البديل يفرض عليه أن ينغلق على نفسه ولا يبوح لنا بأي شيء. حتى في صباحات باريس غالبا ما «تحمل قهوة الصباح/ روائحَ أهراء طفولتك». هو الإبطال الصارم للحاضر، حيث انفتحت نفسُ الشاعرِ إلى تعلم اللغات والترجمة عنها، وقام بأكثر من مشروع أدبي ظلت العزلة المؤثثة بالحنين الموجع بائنة فيه، وهكذا جاءت ترجمات جهاد لرامبو وريلكه وغيرهما من الشعراء بمكيال فيه أثر بائن من هذه العزلة. إن نسيان الماضي أمر مسوغٌ وشائع، أسطورةً كان أو حقيقيا، لكن نسيان الحاضر ليس كذلك.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول كريم سعدون:

    من اجود من يكتب المقالة الادبية الرصينة، شكرا د. حيدر

  2. يقول جبار ياسين . فرنسا:

    لكن اليس الشعر تهذيبا للجنون لكي يبقى الشاعر مجنونا ؟

إشترك في قائمتنا البريدية