هل أصابع الكاتب أصابع ديناميت؟

حجم الخط
86

ها أنا من جديد أكتب لكم من طائرة. يقال إن بعض الناس يولدون وفي أفواههم ملعقة من ذهب، أي أنهم يرثون ثروة طائلة. من طرفي أظن أنني ولدت وفي فمي بطاقة طائرة. ها أنا أرحل من جديد إلى أرض الوطن كأي مدمن لا شفاء له. أغادر باريس الكهرباء الدائمة ذاهبة إلى مدينة ما زالت تعاني من انقطاع الكهرباء منذ سنوات طويلة، وثمة من ينشغل بقص قطعة كبيرة من «جبنة الوطن» بدلاً من تقديم الخدمات للمواطن، ويحدث دائماً أن أصل إلى بيتي والكهرباء مغمى عليها، وتلك حكاية أخرى تطول.

أصابع أم متفجرات؟

قبل الصعود إلى الطائرة مررت بما يمر به كل مسافر، أي للتفتيش الدقيق، وقد حفظت مراسيمها لكثرة ما أرحل.. ولكن جديداً طرأ في هذه الرحلة، إذ تقدم مني رجل أمن وطلب مني أن أمد يدي فدهشت وأذعنت، ومرر آلة صغيرة فوق يدي على الجانبين. ولم أستطع إسكات فضولي فسألت رجل الأمن: ما هذه الآلة التي مررتها على بعد ثلاثة سنتيمترات من يدي؟ قال بلطف: هذه آلة ترن مدوية إذا كانت في أصابع أحدهم آثار مواد متفجرة كان (يركّب) قنبلة أو ما شابه.. واستمعت إليه ومضيت وأنا أشعر بالدهشة من الآلة الغبية! أم تلحظ أن أصابع كل كاتب عاشق للحرية هي أصابع ديناميت؟ وأصابعي قد تنفجر في أي لحظة حين أكتب مزدحمة بالغضب أمام أي قمع يهين إنسانيتي. ألم يتم اغتيال كامل مروة ورياض طه وسليم اللوزي وسواهم كثير بسبب (أصابعهم)، بل ألم يحرقوا أصابع سليم اللوزي وهو حي قبل إطلاق رصاصة على رأسه؟ في المقابل، تستحيل أصابعنا شموعاً حين نكتب عن الحبيب، ثم ترق وتذوب!

متسول سوري «كسر» قلبي!

وهناك أيضاً قبل الصعود إلى الطائرة وأنا في طريقي للدخول إلى القسم الخاص بالمسافرين، وكنت على وشك وداع صديقتي الفرنسية التي أوصلتني إلى المطار حين تقدم منا شاب وحدثنا بالفرنسية قائلاً: هل لديكما 70 يورو. أرجوكما أن تعطياني ذلك، فأنا في حاجة ماسة إلى هذا المبلغ!
ذهلنا. للمرة الأولى نلتقي متسولاً اختار مطار باريس (شارل ديغول ـ رواسي) للتسول. في البداية ظننتها (الكاميرا الخفية) فقد كان عادي الملبس على حافة الأناقة، وسألته بالفرنسية: هل تتكلم العربية؟ أجابني بالعربية: نعم. سألته من أين؟ قال: أنا سوري.
وانكسر قلبي. ما الذي قذف بهذا الشاب السوري إلى التسول في مطار باريس؟ ولو لم يكن موعد سفري قد حان ولا أريد أن تقلع الطائرة بدوني لاستفسرت منه عن حكايته ولكتبتها. هكذا أصابع ديناميت الكاتب، إنها تتصف بالفضول وتريد أن تعرف الحقيقة قبل أن تنفجر بالمتسول الكاذب أو بأعداء الصادق الذين شردوه.

مأساة على قدمين: المتسول الطفل

أول ما فعلته حين وصلت إلى بيروت مغازلة البحر من شرفتي. لكنه لم يسمعني ولم أسمع موجه، فقررت الذهاب إليه لأبوح بحبي ولأقول له إن نهر السين مقابل نافذتي في باريس تعويض بائس عن غيابه.
وهكذا قطعت الشارع من بيتي، حيث الكهرباء مغمى عليها، إلى رصيف البحر. وهنا اقترب مني طفل متسولاً، وشاهدت على بعد أمتار امرأة ورجلين يرقبون المشهد، ومن الواضح أنهم (الريموت كونترول) الذين يستغلون هذا الطفل المسكين. لم يفاجئني المشهد. ففي الطائرة حين وزعوا علينا الصحف اللبنانية شاهدت صورة ليلية لمتسولة/متسول صغير، أما الذين يستخدمونه فقد غطوا وجوههم في الصورة على نحو ما .
ويقول التعليق في جريدة «النهار»: «مشهد يتكرر في بيروت والمناطق. أولاد يتسولون في الليل كما في النهار تحت أنظار عصابات من ذويهم يراقبونهم من بعيد ثم ينقلونهم إلى منازلهم بعد منتصف الليل».
وها أنا أعايش المشهد، أنا التي هبطت لمغازلة البحر وجدتني أمام مأساة أليمة. مأساة شاسعة من فروعها مطاردة تجار المخدرات كما الأطفال، والصغيرات الفقيرات في الحانات، وغير ذلك من مآسي هذا الوطن الممنوع من الاستقرار، وحتى من تشكيل وزارة ولو من 32 وزيراً!

وزارة في فرنسا: ثلاثة أيام!

تشكيل وزارة في بلدان العالم الأول التي لا تعاني من «الميليشيات السياسية» يتم في ثلاثة أيام. ولو حدث هناك أن تم تشكيلها (مع التعطيل) طوال أشهر وجاءت من 32 وزيراً، كما في لبنان، لتساءل الشعب الفرنسي عن راتب الوزير وكم تكلف وزارة كهذه من مال الضرائب التي يدفعها المواطنون. فالمواطن هناك له قيمته وليس جزءاً من حجارة شطرنج اللاعبين بأرواح الناس وأرزاقهم. ولا يمكن المتاجرة هناك بالأطفال وتوظيفهم في حقل التسول، ولو حدث ذلك لسجن المسؤول ونقل الطفل إلى مكان خاص بالمشردين زاخر بالعلم، بعد عقاب أسرته إذا كانت متورطة في العصابة… وهكذا لم أتابع المشي على شاطئ البحر ولم أغازله، بل عدت إلى بيتي وقد غمرني الغم، ولم أستمع إلى صوت الموج في رحلته الأزلية بين الشاطئ وعرض البحر، بل رحلت مع أحزان وطن أحببته من زمان اسمه لبنان.
عدت والكهرباء مقطوعة في قلبي أيضاً، لا في المبنى الذي أقيم فيه فحسب. ولم أحاول إشعال شمعة؛ لأنني شعرت أن أصابعي الديناميتية بدأت تشتعل غضباً منذ ليلتي الأولى في بيروت!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرسوري.باريس:

    قال أ.بدران
    بل لاحتفظ في قارورة ذاكرتي على سائل عيون محبتهم .
    واقول له
    بدران جاء بأظرف الحزورة
    وروى التذكر من صدى القارورة

  2. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرسوري.باريس:

    اصطلاح جديد أطلقه فيلسوف الكرمل اليوم أ.بردان:
    بل لاحتفظ في قارورة ذاكرتي على سائل عيون محبتهم!
    (بدران) صاحب قلب رائع الفضل
    صان التذكر في قارورة العقل!

  3. يقول فؤاد مهاني (المغرب):

    شكرا أخي العزيز رؤوف بدران أنا الحمد لله بخير وتحية إليك ولكل المعلقين.

  4. يقول سلوى:

    تحية الى السيدة غادة والى جميع القراء الاحباء
    لبنان الذي غنته السيدة فيروز ( لبنان يا قطعة سما) لم يعد له وجود لبنان الجمال والشعروالموسيقى والطبيعة الخضراء اختفى الى غير رجعة لقد اصبح لبنان بلاد العتمة تملؤه النفايات وتاكله الامراض السرطانية والفقر ولا عجب ان تكون نهايتنا هكذا بسبب حكامنا الذين يشبهون الجراد الذي ياكل الاخضر واليابس لقد عاثوا فسادا في ادارات الدولة وجعلوا الوظائف حكرا على خاصتهم وانتشرت عمليات النهب واسرقة المال العام فأصبح البلد على شفير الافلاس وبعد ما وصل الدين العام لمستويات غير مسبوقة ( 100 مليار دولار) قررت الحكومة التحرك اخيرا لمعالجه الامر ولكن كيف ؟ من جيوب الفقراء والعمال والموظفين البسطاء وذلك من خلال اقتراح خفض الرواتب عوضا عن التفكير في محاربة الفساد والهدر في كافة مفاصل الدولة !
    فلك الحق يا سيدتي أن تغضبي وتحزني كما تشائين على هذا الوطن المسكين الذي ذبحه ابناؤه من الوريد الى الوريد ….. المستقبل قاتم والقلق يساور الجميع و نحتاج الى معجزة من الله للنهوض بلبنان…..ولكن النور الوحيد الجميل الذي يشع في هذه الظلمة هي المقاومة التي تجعلنا نفتخر دائما بالانتماء للبنان والتي رفعت رأس جميع اللبنانيين عاليا

    1. يقول غادة الشاويش -الاردن:

      المقاومة اسم لا يستحقه الا الذين لم يلبسو جهادهم بظلم والمقاولة هي الكلمة الاسلم للوجوه القاتلة القبيحة التي نصرت احقر دكتاتور على وجه الارض ولوثت سمعة الجهاد النقية لكم دكتاتوركم السادي وعذا هو شرفكم الذي بع تفخرون ولنا كل مستضعفي الارض من غزة الى القدس الى دمشق وداريا والزبداني قبل الثورة كانت مقاومة وبعدها اصبحت مقاولة رموزعا بشار الجزار وازا عندك كلام تاني عن حليفكون المتوحش احكيه بوجه ارامل سوريا رحم الله ايام المقاومة
      جريحة فلسطينية منشقة عن منظمة الارهاب التكفيري حزب الاسد الله سابقا تنحاز الى الحسين السوري وتقاتل ضد فرعون سوريا المجرم السادي هاتك الاعراض وحليف داعش بشار الاسد والذي لم يحترم عمامته ولا منهج الحسين ولا دماء سعداء المقازكة يوم ان لوث سمعتنا بالقتال الطائفي الجبان حسن نصر الطواغيت!

  5. يقول سلوى:

    تحيتي الى جميع الاصدقاء في الصفحة وخاصة للسيد رؤوف بدران أنتم دائما في البال ولو انشغلنا عنكم ولكن نتابع دائما ما تكتبون وتحية الى السيدة غادة المتألقة والجميلة دائما في عيوني وعيون محبيها.

  6. يقول أبو تاج الحكمة:

    فؤاد المهاني
    كريم المعاني!

  7. يقول ابوتاج الحكمة/فرنسا:

    فؤاد المهاني
    كريم المعاني!
    وعند الدموع
    نصير المعاني
    وفوق المفهوم
    بفقه الزمان

  8. يقول أبو تاج الحكمة:

    تصويبات

    أسامة كلية
    اهلا أسامة كلية تاج الأدب°
    ومكارم الأخلاق (تيجان) العرب°

    فؤاد مهاني
    فؤاد المهاني
    كريم المعاني!
    وعند الدموع
    نصير المعاني
    وفوق( الفهوم)
    بفقه الزمان
    عذراللخطأ المطبعي

    سلوى
    الخير في سلوى
    والنور والتقوى
    والله يحفظها
    من ضربة البلوى
    لبنان سوريا
    بالروح والنجوى!

  9. يقول فؤاد مهاني- المغرب-:

    ممنون لك أخي العزيز أبو تاج الحكمة وعاجز على شكرك على هذه الكلمات الطيبة.

  10. يقول أبو تاج الحكمة:

    الشكر لله ثم للقدس العربي اخي الاستاذ فؤاد مهاني فهي كانت سببا لاجتماعنا المبارك جدا جدا جدا باذن الله

1 3 4 5 6 7

إشترك في قائمتنا البريدية