عملت الاستراتيجيات الأمريكية منذ عقود على توظيف المنطقة في إدارة صراعاتها الدولية، وربط سياسة الدول العربية بالحفاظ على أنظمتها السياسية، وحاولت تشريع الوجود الإسرائيلي عبر المعاهدات والاتفاقيات مع أنظمة حرصت على أن تبقى هشّة وضعيفة. أتت عملية طوفان الأقصى لتعيد فلسطين إلى واجهة الرأي العام العالمي، وتكشف الأقنعة، وتفضح المحتل، الذي ما زال العالم يرى فاشيته وإرهابه وتعطشه للقتل والتصفية بشكل غير مسبوق في التاريخ. وهذا الكيان الذي أرادوه أن يبدو جزءا من البناء الإقليمي للمنطقة، كل ما يقوم به حتى الآن، قد خُتم بموافقة أمريكية، وبدعم غربي تام وغير محدود.
بميزان التقدير الاستراتيجي، تلقّت السياسة الأمريكية ضربة قوية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول لجهة الدور الوظيفي للكيان، الذي سعت لتعزيزه منذ منتصف ستينيات القرن الماضي. نزاع الشرق الأوسط لا تستطيع إسرائيل الانتصار فيه. سوف تستمر الكراهية والعنف والبؤس بلا رادع، كما جاء في صحيفة «الغارديان» البريطانية، ومن المرجح أن يتفاقم وينتشر. وكون هذه الدورة القاتلة مألوفة، لا يعني أنها لا يمكن أن تتسارع. في واشنطن العاصمة، وبريطانيا، يعصف الغضب والحزن بالسياسة الداخلية. في وقت يتجلى عجز الأمم المتحدة يوميا على نحو مهين، ولم يعد أحد محصّنا من هذا السم. الإنسانية غابَت غيابا واضحا في عالم يدعي القانون والديمقراطية والعدالة، كذبا وبهتانا. وما يضنونه فوضى إقليمية يمكن أن تصبح عالمية بميزان التحالفات الاستراتيجية والضرورة الأمنية.
عربدة صهيونية متواصلة منذ عقود تختصر احتكار إسرائيل الفعلي للعنف في المنطقة، ومن ثم تأتي الحرب الهمجية المتواصلة على سكان غزة من قبل كيان استعماري إجرامي عقدوا معه اتفاقيات سلام وتحالفات أمنية على حساب فلسطين وشعبها، الذي يباد ويهجّر قسرا تحت أنظارهم، وهم عاجزون على كل شيء. وبات من الواضح، خاصة بعد خيبة الأنظمة الرسمية العربية، أنه لن يوقف إسرائيل في هذه الحرب التي ترغب بوضوح من خلالها في إبادة سكان غزة وتهجير من تبقى منهم، وكذلك في جنوب لبنان إلا فشلها العسكري وتعاظم خسائرها أمام المقاومة الباسلة. الجملة التي قالها نتنياهو بعد عملية استهداف الأمين العام لحزب الله «لسنا بيت عنكبوت»، تدلّ على عمق الأثر النفسي الذي تركته هذه الجملة الشهيرة، في نفسه ونفوس الإسرائيليين جميعا، شكّلت عقدة نفسية لديهم لسنين منذ قالها الشهيد السيد حسن نصرالله في حفل التحرير الشهير في بنت جبيل. تماما مثل محاولة الجيش الإسرائيلي الفاشلة تصوير الشهيد يحيى السنوار في صورة المتخلّي عن شعبه، في حين أنه كان يواجههم في الميدان حتى لحظاته الأخيرة، مسطّرا ملحمة وبطولات سوف تجعله أيقونة النضال المستمر لحين التحرر والاستقلال من سيطرة كيان إحلالي عنصري وفاشي. إثبات آخر يؤكد كيف تخشى إسرائيل قوة الحقيقة التي تكشف عنصريتها المقيتة أمام ما تقوم به من أعمال إبادة وجرائم ضد الإنسانية. من المؤكد أنّ حزب الله لم يستخدم بعد صواريخه النوعية والاستراتيجية، أو يوجه أعدادا كبيرة من المسيرات المتنوعة، بل لا يزال مكتفيا بعدد ونوع محدود من المسيرات والصواريخ. عملية بنيامينا النوعية، ومن ثم عملية قيسارية، واستهداف منزل رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، تُثبت أنّ المقاومة اللبنانية لا تزال تخبئ الكثير من المفاجآت، خاصة في ما يتعلق بسلاح الجو. بات هاجس الطائرات دون طيار يشكل تحديا قاسيا للمؤسسة الأمنية والعسكرية للعدو الإسرائيلي، ومفاجآت حزب الله الأخيرة، بما فيها استهداف منزل نتنياهو هي إثبات لكذب الجيش الإسرائيلي، والثقة التي منحها قادته للإعلام حول تدهور قوة حزب الله، وتفكك منظومة القيادة لديه وارتباكه. وأنه تم تحييد معظم قدراته الصاروخية والقتالية، استراتيجية الهجوم على حيفا وتل أبيب في حال العدوان الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية وبيروت، أعادت إلى حدّ ما توازن الردع. والرد على تهديدات الكيان الصهيوني بإخلاء المناطق السكنية والتهجير القسري لسكان جنوب لبنان نحو المناطق الشمالية وسوريا، كان واضحا، حيث قابلته المقاومة بإطلاق الصواريخ نحو حيفا ومدن إسرائيلية أخرى، ما دعا المستوطنين الى إخلاء منازلهم القريبة من القواعد العسكرية. أما عملية قيسارية، كما عمليتي بنيامينا وهرتسيليا، فهي من جملة العمليات التي تأتي في سياق المرحلة الجديدة، التي أطلق عليها نائب الأمين العام لحزب الله «إيلام العدو»، والتي توعدت غرفة العمليات بتنفيذها. تغيير لافت واستراتيجي في قيادة المعركة من قبل المقاومة.
أتت عملية طوفان الأقصى لتعيد فلسطين إلى واجهة الرأي العام العالمي، وتكشف الأقنعة، وتفضح المحتل، الذي ما زال العالم يرى فاشيته وتعطشه للقتل بشكل غير مسبوق في التاريخ
أمريكا شريك كامل للكيان الإسرائيلي المؤقت في كل خططه وأعماله، وهذه الوحشية والاجرام يأتيان بعد فشل الهدف الأمريكي الاستراتيجي في إعداد الكيان وتأهيله لمهام ضبط إيقاع الدول في النظام الإقليمي، في حال الحاجة الأمريكية إلى التوجّه نحو أولويات الشرق. في الأثناء، إذا كانت المملكة المتحدة تريد أن تكون صادقة بشأن تأمين أي نوع من التقدم في غزة وخارجها، والوفاء بمبادئ حزب العمال، الخاصة بشأن حقوق الإنسان والقانون الدولي، فعليها أن تتصرف بشكل مستقل عن أكبر حلفائها، كما أكدت كيلي بيتيلو منسقة برنامج الشرق الأوسط وشمال افريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. وفي حين قد يكون القيام بذلك أكثر صعوبة في ما يتعلق بالقضايا السياسية، فإن السياسة الإنسانية قد تكون مجالا يمكن لبريطانيا من خلاله إعادة تأكيد نفسها كلاعب عالمي. إحجام حكومة ستارمر عن تبني موقف أكثر تقدمية بشأن فلسطين يتزامن مع موقف إدارة بايدن. وفعلا تعيد هذه الديناميكية شبح قرار توني بلير، بدعم الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق من أجل «العلاقة الخاصة»، التي أدت إلى أكبر احتجاج مناهض للحرب في تاريخ بريطانيا. وبعد مرور ما يزيد عن 20 عاما، يخاطر حزب العمال بتكرار هذا الخطأ بشأن غزة، إذا لم يفعل المزيد لدرء المعاناة الأعمق في القطاع المحاصر والمنكوب بفعل القصف والتدمير، أو الاعتراف بالدولة الفلسطينية مثل المزيد من الدول الأوروبية، بسبب المخاوف بشأن الآثار المترتبة على علاقات بريطانيا مع الولايات المتحدة. هذا الرهان ينطبق على بريطانيا وغيرها من الدول الغربية التي تبدي إلى الآن موقفا سلبيا مما يجري في غزة، وتدعم مجازر الاحتلال، ولا تفعل شيئا لوقف تجاوزات نتنياهو وحكومته من المتطرفين. وهذا هو «العالم الحر» في تجلياته الإنسانية المتهاوية، وتهافت مبادئه الحقوقية ومقولاته التنويرية..
كاتب تونسي