عُرف عن شارل ديغول، الرئيس الفرنسي الأسبق، ومؤسس الجمهورية الخامسة، أنه هو الذي أنهى استعمار بلاده لكثير من بلدان افريقيا وآسيا، ومنحها الاستقلال. لكن ما فعله ديغول، في حقيقة الأمر، لم يتعدَّ “تغيير شكل الاستعمار”، في تلك البلدان التي بقيت خاضعة للنفوذ الفرنسي. وما تغير هو أن باريس أصبحت تديرها من وراء الستار، أما واجهة الحكم فهم من أهل البلاد نفسها.
”إسرائيل” نموذج
وقد فعلت الدول الاستعمارية الأخرى، مثل بريطانيا، الشيء نفسه. إذ كانت “إسرائيل” من بين الدول المصطنعة التي أقامها المستعمرون الإنكليز في فلسطين، وأسسوا لها جيشاً كانت نواته “الفيلق اليهودي”، ضمن جيشها الامبراطوري.
ولما حان الموعد، يوم السبت، الموافق 15 أيار/ مايو، 1948، قامت بريطانيا بعملية تسليم فلسطين، في مؤامرة دنيئة سُميت “النكبة”، أورثوا خلالها العصابات اليهودية دولةً قائمةً بكامل أجهزتها، وغادروا “شكلاً”، كما فعل الفرنسيون في مستعمراتهم.
عقليات غربية
ونجد إذن أن “إسرائيل” لا تختلف عن أي مستعمرة فرنسية مثلاً. وقد اختارت بريطانيا للكيان طبقة سياسية من جنودها، يختبئ وراءها “الاستعمار البريطاني”.
وما زال الحال على ما كان عليه قبل خمسة وسبعين عاماً، إلا أن التسميات قد تغيرت. فبدلاً من “فلسطين” أصبحت “إسرائيل”، وبدلاً من “سلطات الانتداب” أصبحت “سلطات الاحتلال”.
وهذا هو واقع “إسرائيل”، مستعمرة بريطانية سابقة ما زالت بريطانيا تديرها، من وراء ستار، وهي مرتبطة بها ارتباطاً عضوياً، مثل الارتباط العضوي بين فرنسا وأي مستعمرة من مستعمراتها في افريقيا.
إلا أن الدور الوظيفي لـ “إسرائيل” يختلف عن دور أي مستعمرة اخرى في العالم. فبالإضافة لكونها قلعةً متقدمةً للغرب في المنطقة، ومتعالية على محيطها، فإن وظيفتها الرئيسية هي زعزعة الاستقرار، عن طريق إبقاء النزاعات مشتعلة، على الدوام، وإشغال المحيط بها. وبالتالي تكون النتيجة الأخطر أن وجود “إسرائيل” يحول دون وحدة العرب والمسلمين ونهوضهم. وهكذا يظلُ الكيان حجرَ عثرةٍ في طريقنا، ما دام موجوداً، حتى لا تقوم لنا قائمة. فحالة عدم الاستقرار الدائمة تستنزف الطاقات، والعقول، والموارد المادية والبشرية، على غير طائل.
حضارة مغايرة
هذا الدور الوظيفي للكيان معروف لدى القادة والسياسيين، لكنهم يعبرون عنه بمصطلحات دبلوماسية، غير واضحة أحياناً، ومبطنة أحياناً أخرى، مما يجعل أقوالهم بحاجة إلى تفسير وترجمة لتوضيح المغزى منها. ومن بين هؤلاء المرحوم الدكتور غازي القصيبي، الشاعر والأديب والدبلوماسي والسياسي السعودي، الذي أمضى 10 سنوات، خلال التسعينيات، سفيراً لبلاده في لندن. ففي مقابلة مع القصيبي، واسع الخبرة والاطلاع، سُئل عن رأيه في إمكانية التعايش بين العرب وإسرائيل. فماذا أجاب؟
قال إنه رغم (هرولة) العرب نحو إسرائيل، فإنها هي التي كانت (تتردد في قبول التعايش)، بمعنى أنها تصر على إبقاء النزاع قائماً بينها وبين العرب، كي تبقى حالة عدم الاستقرار. وأضاف: (إن المشكلة تكمن في تركيبة إسرائيل. فهي في أعماقها لا تزال دولة محكومة بنظرية عنصرية، تحمل نظريات التفوق العرقي العنصري). بمعنى أنها تنظر إلى المنطقة وأهلها نظرة دونية.
إسرائيل تُدار من الخارج
والأهم أن القصيبي ذكر أن (إسرائيل تحكمها وتديرها عقليات غربية، رغم كل مظاهر استقلالها، وأنها تعتبر نفسها منتمية إلى حضارات غير حضارة المنطقة التي تعيش فيها).
ثم تساءل غازي القصيبي: (هل تقبل “إسرائيل” فعلاً أن تكون دولة شرق أوسطية؟ هل هي مستعدة أن تضحي بعلاقاتها الغربية، وبأصولها الغربية، وبجذورها الغربية، وأن تصبح دولة شرق أوسطية؟ انا شخصياً لا أرى ما يشير إلى ذلك، على المدى البعيد). بمعنى أن دور “إسرائيل” الوظيفي سيبقى كما هو ولن يتغير مع مرور الزمن.
الاستهانة بالحكام
ما يضفي المصداقية على رأي القصيبي هو أنه أمضى حياته في كواليس الحكم والسياسة، وهو أدرى ببواطن الأمور. لذلك نجده يستهين بطبقة “السياسيين” الذين يطفون على السطح في “إسرائيل”، وهو لا يعتبرهم أصحاب القرار، حيث يقول: (أنا أعتقد أن المشكلة ليست في نتنياهو، وليست في حكومة (حزب) العمل، وليست في حكومة الليكود).
ويمكن ترجمة مقولة القصيبي هذه أنه يقصد أن “السياسيين” في الكيان ليسوا هم من يدير “إسرائيل”، تماماً مثلما تفعل فرنسا، التي جعلت من حكام مستعمراتها واجهة تختبئ وراءها.
فـ “حكام إسرائيل” إذن، حسب رأي القصيبي، هم واجهة لمن يديرها فعلاً، رغم ما يفتعلونه من ضجيجٍ وصراخٍ فارغين. وهم لا يخرجون عن كونهم أداة استعمارية لمن زرعهم في بلادنا. ولم تتغير كينونتهم مذ جيء بهم إلى فلسطين. فهم مجرد جنود حراسة، و(كومبارس) في المشهد، موظفون في (الفيلق اليهودي)، ووكلاء للاستعمار الغربي. أما من يحرك الدمى فهو صاحب القرار وهو الحاكم الفعلي.
من هو غريمنا؟
وكدليل على صحة رأي القصيبي أنه لما أصبح نتنياهو منبوذاً في واشنطن، رفضت إدارة بايدن استقباله، ومولت حركة الاحتجاجات الواسعة ضد خطته للتعديلات القضائية، لم يجد ملاذا يذهب إليه إلا لندن، التي زارها، أواخر شهر آذار/ مارس الماضي، كي يشكو همه من ضغط الأمريكيين عليه، ويطلب النجدة والفزعة.
وأخيراً، نعود إلى التساؤل “هل إسرائيل دولة مستقلة؟” نجد أن الإجابة هي بالطبع “لا”. وفي الحالة هذه من هو غريمنا إذن؟ التابع؟ أم المتبوع؟ والجواب: كلاهما. فالمستعمرون وجنودهم كانوا خاطئين.
كاتب أردني