واشنطن – د ب أ: يرى المحلل الاقتصادي الأمريكي ميلتون إزراتي أن المستثمرين والشركات في الصين، بل وفي مجتمعات الأعمال حول العالم، تبنوا بشغف وعود بكين بصياغة سياسات سوف تستعيد الزخم الاقتصادي للبلاد. غير أنه يستدرك بالقول إنه غالبا ما تعقب تلك الوعود خيبة أمل. ويضيف «يبدو وكأن القيادة الصينية لا تعرف ببساطة ماذا تفعل».
وهذا الاستنتاج معقول تماماً لأن الاضطرابات الاقتصادية والمالية التي تواجهها الصين نجمت بشكل كبير عن ما يعتبره سياسات غير مدروسة تعود إلى ما قبل جائحة كوفيد19.
وقال إزراتي ، الباحث المتعاون مع مركز دراسات رأس المال البشري في جامعة بوفالو الأمريكية المتخصصة في الأنشطة البحثية في تقرير نشرته مجلة «ناشيونال إنتِرِست» الأمريكية إن وسائل الإعلام الغربية أشادت باقتصاد الصين. فمنذ وقت ليس ببعيد كان من الشائع القول إن اقتصاد الصين سوف يتفوق قريباً على اقتصاد الولايات المتحدة. وأضاف أن التعليقات أشادت غالباً بفاعلية وبعد نظر ودقة تنبؤ التخطيط الصيني من أعلى إلى أسفل. بل وأشارت بعض التعليقات إلى أنه ربما يكون متفوقاً على فوضي الممارسة الديمقراطية والأساليب القائمة على أساس حريةالسوق. غير أنه يرى أن الإشادة بقدرة التخطيط المركزي الصيني على التنبؤ كثيراً ما كانت في غير محلها. ونظرا لآن الصين الحديثة بدأت كاقتصاد نام ومزقته الحرب بشدة، كان أمام مخططي الاقتصاد فسحة من الوقت لتحديد المجالات التي يجب على البلاد أن تؤكد عليها.
وكان كل ما احتاجوا إليه هو النظر إلى العالم المتقدم، واستطاعوا أن يروا أن شق طرق جديدة وربط السكك الحديدية وتشييد مرافق الموانئ والإسكان ومحطات الطاقة وما شابه ذلك سوف يحقق معدلات نمو هائلة، وقد حققت الصين ذلك، وخرج المواطنون من مستنقع الفقر المدقع وأصبحوا أكثر ثراء.
وفي الوقت الذي تقدمت فيه الصين والتحقت بالاقتصاديات الأكثر تقدماً، أصبحت احتياجاتها المستقبلية أقل وضوحاً.وهكذا فقد المخططون الصينيون المركزيون نموذجهم وبدأوا على نحو متزايد يقعون في أخطاء.
وأصبحت الحقيقة الجديدة للحياة الاقتصادية ( بالنسبة للصين) واضحة في العقد الأول للقرن الحادي والعشرين. وفي ذلك الوقت، كانت السلطات تشجع التوسع في البناء السكني لبعض الوقت.
غير أنه في الوقت الذي تحولت في الصين من اقتصاد يفتقر إلى الإسكان إلى اقتصاد يتمتع بوفرة في الإسكان، ارتكب المخططون خطأ الإبقاء على هذه السياسات سارية. وارتفع التطوير العقاري إلى نسبة لايمكن تحملها بلغت 30%من اقتصاد الصين.
وتابع الباحث أنه عندما تنبهت بكين أخيرا للمشكلة، ارتكبت خطأً ثانياً. ففي الفترة 2020-2019، أوقفت بكين فجأة كل الدعم السابق لقطاع الإسكان. وكان القرار بحد ذاته معقولاً، و لكن الإجراء المفاجئ تسبب في مشاكل وباغت كلاً من المُطَوِّرين العقاريين والحكومات المحلية، حيث لم يترك لهم أي وقت لتوفيق أوضاعهم.
وفي عام 2021، بدأ المُطَوِّرون في التعثر والإفلاس، وبدأت الحكومات المحلية في الإبلاغ عن صعوبات في الوفاء بالتزاماتها المالية، بل وفي بعض الحالات عجزت حتى عن توفير الخدمات العامة الأساسية.
وفي ذلك العام بدأت الأمور في القطاع المالي الصيني تشبه تلك التي حدثت في الولايات المتحدة خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008. وبدلاً من التحرك بقوة لوقف انتشار الفشل المالي، ارتكبت السلطات في بكين خطأ آخر، حيث لم تتخذ أي إجراء كما لو لم يكن هناك أي خطأ. وفي وقت قصير فقد الاقتصاد الدعم لنشاط التشييد والمستهلك الصيني.
وفي الوقت الذي تباطأ فيه الاقتصاد أعاد قطاع الأعمال الخاص في الصين التفكير في توسعه وخطط التوظيف، وعلى الرغم من ذلك لم تتحرك السلطات.
وفي خطأ متزامن فاقمت السلطات كل هذا الضغط. فعندما كانت بقية دول العالم تعيد فتح حدودها بعد جائحة كوفيد 19، فرضت بكين سياسة صفر كوفيد. واحدثت عمليات الإغلاق والحجر الصحي المرتبطة بها اضطراباً في دخول العمال وبالتالي أعطت المستهلكين سبب آخر للحد من الإنفاق. وفي عام 2023 فقط، تنبهت بكين إلى الحاجة لعمل شئ ما لعلاج هذه الأمور . وبعد الانتظار لفترة طويلة أبدى المخططون، في خطأ آخر، استحياءاً ملحوظاً في الإجراءات التخفيفية العديدة التي عرضوها. وزاد المخططون من اخطائهم حيث قرروا تعويض أوجه النقص في البناء والاستهلاك والإنفاق الاستثماري الخاص من خلال استخدام شركات تملكها الدولة لتوسيع القدرات الانتاجة فيما كانوا يعتقدون أنها صناعات المستقبل كالسيارات الكهربائية والبطاريات والذكاء الإصطناعي وأشباه الموصلات وما شابه ذلك. ومع ضعف الإنفاق المحلي، لم تجعل هذه القدرة الفائضة الجديدة الصين إلا أكثر اعتماداً على الصادرات من أي وقت مضي. وكان ذلك بالكاد حلاً لأنه كانت هناك بالفعل ندرة في المشتريين في الخارج. وكانت الشركات الأمريكية والأوروبية واليابانية تنوع بالفعل مصادرها بعيداً عن الصين، وتواصل حالياً عمل ذلك. وأصبحت واشنطن وبروكسل وطوكيو أيضا معادية على نحو متزايد للتجارة الصينية، حيث رفعت الرسوم، ووضعت قيودا أخرى على المبيعات إلى الصين ومنها.
وحتى هذا العداء في العالم المتقدم هو جزئياً على الأقل نتيجة أخطاء أخرى ارتكبتها القيادة في الصين. فعندما ظهرت أول هذه المواقف المعادية للصين في الغرب مع الرسوم التي فرضها الرئيس دونالد ترامب خلال ولايته في عامي 2018و2019، كان واضحا أنه كان بإمكان بكين أن تتخذ موقفا لينا تجاه واشنطن من خلال الاعتدال في السياسات التي اشتكى منها الأمريكيون وهى تقديم أموال دعم للصناعات المحلية وسياسات شراء المنتج المحلي وسرقة براءات الاختراع وإصرار بكين على أنه كان يتعين على أي شركة أجنبية تعمل في الصين أن يكون لها شريك صيني يتعين عليها أن تشاركه أسرارها التكنولوجية والتجارية. غير أن القيادة في الصين رفضت تقديم أي تنازلات ولذا ظلت الرسوم الأصلية التي فرضها ترامب سارية، وبنت عليها إدارة الرئيس جو بايدن ، بما في ذلك رسوم بنسبة 100% على السيارات الكهربائية والبطاريات الصينية.
وحذت بروكسل وطوكيو حذو أمريكا ولكن بطريقة أكثر اعتدالاً. والآن وبسبب هذه السلسلة من الأخطاء السياسية ، تجد الصين نفسها في وضع اقتصادي ضعيف بصفة عامة وفي وضع ضعيف بصفة خاصة لمواجهة الرسوم الجديدة التي تعهد بها الرئيس المقبل ترامب.
لكن ورغم كثرة حديث البعض عن انهيار اقتصاد الصين على مدار سنوات، فإن هناك شكوكاً بأن مثل هذا الانهيار سوف يحدث.
فالصين لديها اقتصاد كبير يمكنه بالتأكيد أن يصمد رغم العدد الكبير من الأخطاء التي تم طرحها هنا. مع ذلك ، يبدو أن الانتصارات الصينية التي تحدثت عنها وسائل الإعلام الغربية في السابق مبكرة وبعيدة للغاية عن التحقق .
واختتم إزراتي تقريره بالقول إنه من غير المُرَجَّح تحقيق الصين نمواً مناسباً، مُبدياً تشككه فيما إذا كانت قد حقق في عام 2024 النمو المستهدف بنسبة 5% كما أعلنت بكين.