يبدو أن الضربات الأمريكية في كل من العراق وسوريا واليمن، قد بثت الخوف لدى عواصم عديدة في الشرق الأوسط، فهي من جهة تترافق مع العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، ومن جهة أخرى فإن الميليشيات التي تم استهدافها بتلك الضربات الجوية محسوبة على إيران، وتشكل أذرعها الإقليمية ومجساتها في إحداث الاضطرابات في المنطقة، لكن يبدو أن طهران آثرت الاكتفاء بإدانة تلك الاستهدافات، على الرغم من ادعائها قيادة محور هذه الفصائل في تلك البلدان. وقد بدا واضحا أن الولايات المتحدة أعلنت عن هذه الاستهدافات، وقالت إنها في طور الإعداد للانتقام من الميليشيات التي تسببت بمقتل ثلاثة جنود أمريكيين في إحدى قواعدها في الأردن، كما ترافق هذا الإعلان بالقول إن واشنطن لا تسعى للحرب مع طهران.
ويبدو أن هذا هو الاتفاق غير المكتوب بين الطرفين، حتى لو استمرت الولايات المتحدة باستهدافها لهذه الميليشيات، خاصة أن مستشار الأمن القومي الأمريكي والناطق باسم البيت الأبيض كليهما أكدا علنا، أن الضربات هذه ليست سوى جولة أولى من إجراءات سوف تتواصل في إطار الرد الأمريكي، والهدف المُعلن هو تصفية قادة هذه الفصائل المسلحة، التي شنت عشرات الهجمات على القواعد الأمريكية، وتدمير البنى التحتية لها لردعها عن مواصلة شن الهجمات. وقد ذكرت بعض التقارير الصحافية أن الميليشيات المسلحة في منطقتي القائم وعكاشات غرب محافظة الانبار العراقية، ومثيلاتها في مناطق الميادين والبوكمال شرق محافظة دير الزور السورية، قد تكبدت عشرات القتلى والجرحى، وفقدت مخزونات ضخمة من الأسلحة والذخائر، كما أن الضربات في اليمن هي الأخرى فعلت الفعل نفسه.
ولعل ما دفع واشنطن للرد بشكل قوي وسريع ورادع على هجمات هذه الميلشيات المدعومة من طهران، هو حادث مقتل الجنود الأمريكيين الثلاثة، فقد وضع هذا الفعل إدارة الرئيس جو بايدن تحت ضغوط داخلية شديدة، وارتفعت أصوات العديد من أعضاء مجلسي الكونغرس داعية إلى استهداف إيران نفسها، آخذين على إدارة بايدن محدودية وتواضع ردودها على أكثر من 150 هجوما، تعرضت له القوات الأمريكية منذ بداية العدوان على غزة. ويبدو أن ضبط النفس الذي مارسته واشنطن سابقا، كان سببه عدم وقوع خسائر بشرية في صفوف قواتها. كما أن الولايات المتحدة كانت حريصة كل الحرص على عدم توسيع نطاق الحرب، لكن حادث مقتل الجنود اعتبرته واشنطن انتهاكا خطيرا لخطوطها الحمر، ما دفعها لرفع زخم هجماتها على الفصائل الموالية لطهران، بغية التخلص من أي طرف يحاول الإضرار بمصالحها في المنطقة. وقد شكّل هذا الفعل نقطة تحول في موقفها وسلوكها، إما لأنه تصعيد كبير من جهة، ومن جهة أخرى أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يستعد لحملة إعادة انتخابه، ولا مصلحة له في إظهار أي ضعف في مواجهة منافسه ترامب، الذي كان قد أجاز مطلع عام 2020 اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، ردا على هجوم مماثل قُتل فيه متعاقد مع الجيش الامريكي.
رغم الإجماع الشامل على تجنب اتساع رقعة الصراع في الشرق الأوسط، فإن ارتفاع مؤشر المواجهة بين الولايات المتحدة، والفصائل المدعومة من إيران يُنذر بخطورة الموقف
وعلى الرغم من انطلاق الرد الأمريكي على الميليشيات، لكن يبدو واضحا أن الولايات المتحدة تسعى لضبط هذا الرد بشكل يضمن عامل الردع، لكنه في الوقت نفسه لا يوسّع نطاق هذا الصراع في المنطقة. كما أن حصر الرد بسوريا والعراق يعني بشكل واضح، أن إدارة الرئيس بايدن مصممة على عدم الصدام مع إيران. فهذه الإدارة كما إدارة أوباما قريبة جدا من طهران، فقبل واقعة السابع من أكتوبر/تشرين الأول كانت هذه الإدارة برموزها القوية مثل، رئيس المخابرات، ومستشار الأمن القومي، ووزير الخارجية وكبار الدبلوماسيين، كانوا جميعهم يراهنون على العلاقة مع إيران ويسعون لإرضائها بشتى السبل، كما أنهم صُنّاع الاتفاق النووي معها. وقد نشرت صحيفة «واشنطن بوست» تقريرا موسعا قبل عشرة أيام، عن النقاش الذي دار في مجلس الأمن القومي الأمريكي، حول الخيارات التي أعدها البنتاغون للرد على هجمات الميليشيات، ويبدو أن النقاش كان حذرا جدا من أنه يجب أن يكون الرد سريعا وقويا، لكن في الوقت نفسه يجب أن لا يُحرّض إيران، أو يدفعها إلى الدخول في حرب إقليمية مع الولايات المتحدة. في حين كانت هناك وجهة نظر أخرى داخل المجلس تقول، إن الضربة الأمريكية يجب أن تكون أقوى كي يتحقق الردع، ويرسل رسالة حاسمة إلى طهران تقول، سوف يكون الثمن كبيرا في حال تكررت الضربات على الأصول الأمريكية العسكرية وأوقعت ضحايا.
أما بخصوص الموقف العراقي من الضربات الأمريكية، التي طالت عددا من مقرات الميليشيات المسلحة ورموزها، فقد قيل إن الحكومة طالبت التحالف الدولي بخروج المستشارين ونقل العلاقات بين الطرفين إلى المسار الثنائي، ووضع جدول زمني لانسحاب منظّم لهؤلاء المستشارين من الأراضي العراقية. وجاء الرد الرسمي في بيان لرئيس الوزراء، وصف فيه الفعل العسكري الأمريكي واغتيال أحد قادة الميليشيات العراقية قبل أيام، بأنه تقويض للتفاهمات وتهديد للسلم الاهلي وخرق للسيادة، مضيفا أن التحالف الدولي تجاوز الأسباب والأغراض التي وُجد من أجلها في العراق. علما أن التحالف العسكري الدولي قد تشكّل في البداية بهدف محاربة تنظيم الدولة بقيادة الولايات المتحدة، التي لديها فيه حوالي 2500 جندي يقدمون المشورة والمساعدة والتدريب للقوات المسلحة. ويبدو واضحا مقدار الحرج الذي ران على صياغة البيان الحكومي العراقي. والسبب في ذلك هو أن نفوذ الميلشيات الموالية لإيران هو الأول والأخير في إدارة الملفات الحساسة للدولة، مقابل ضعف حكومي كبير وعجز واضح من اتخاذ القرار الحاسم، سواء في هذا الموضوع أو في غيره، ما يجعل العراق جزءا من دائرة الصراع وتصفية الحسابات. والجدير بالذكر هنا هو أن الحكومة الأمريكية قالت إنها نسّقت لوجستيا مع الحكومة العراقية قبل الضربات، ويمكن أن يكون ذلك قد جرى من أجل تفادي وقوع ضربات قوية جدا.
السؤال الأهم الآن هو، ما هي الضمانات التي تحول دون انزلاق المنطقة إلى نزاع أوسع، في ظل استمرار الضربات الأمريكية ضد الميليشيات المسلحة؟ والجواب عليه يكمن في توازن القوى، ففي العلاقات الدولية توجد نظرية شهيرة تقول، إذا كنت تحتفظ بمقدار هائل من القوة، فهذا بحد ذاته يشكل عامل ردع ويمنع وقوع الصراع، وهنا تدرك طهران والأطراف الأخرى المرتبطة بها حجم القوة الأمريكية، التي لن تتردد واشنطن في استخدامها إذا دعت الحاجة إلى ذلك. بالتالي هذا يمنع انزلاق المنطقة إلى حرب واسعة، لكن رغم الإجماع الشامل على تجنب اتساع رقعة الصراع في الشرق الأوسط، فإن ارتفاع مؤشر المواجهة ما بين الولايات المتحدة، والفصائل المدعومة من إيران يُنذر بخطورة الموقف.
كاتب عراقي