(أيها الملك لديك تريليونات الدولارات ومن دوننا من يعرف ما الذي سيحدث؟ ربما لن تتمكن من الحفاظ على هذه الطائرات، لأنها ستتعرض للهجوم، وبوجودنا هي آمنة بشكل كامل). هذا هو نص حديث الرئيس الأمريكي مخاطبا العاهل السعودي في تجمع انتخابي. ويتمادى في المرة الثانية فيقول (أيها الملك نحن نحميك، وربما لا تتمكن من البقاء لأسبوعين في الحكم من دون جيشنا، لذلك عليك أن تدفع.. عليك أن تدفع). ولو أمعنا النظر في معاني الكلمات ودلالاتها وأسلوب المخاطبة، والزعيق والضحك من قبل الجمهور المحيط بترامب، لوجدنا أنها رسالة مسيئة استهدفت المملكة والملك شخصيا، وكشف مقصود بهدف السخرية عن مضمون مكالمة هاتفية جرت بينه وبين الملك.
في حين نجد في اليوم التالي خبرا تنشره وكالة الأنباء السعودية يقول، أكد العاهل السعودي إنه ناقش مع ترامب العلاقات المتميزة وسبل تطويرها في ضوء الشراكة الاستراتيجية بين البلدين. فهل يسخر الشريك الاستراتيجي من شريكه بهذه الطريقة الفجة؟ وهل يمكن أن يوجه الحليف لحليفه خطابا محملا بالإهانة أمام الإعلام والعالم والجمهور؟ لكن السؤال الكبير هو هل نتوقع من المملكة الرد بمثله؟
منذ أن اطلع العالم كله على هذا العرض الساخر يصر المطبلون ووعاظ السلاطين على القول، إن هذا أسلوب خاص بالرئيس الامريكي يجب قبوله، وهو يمثله شخصيا ولا يمثل الولايات المتحدة. وللتدليل على ذلك يذهبون للقول إنه مس بخطاب مماثل ألمانيا وكندا والمكسيك وبريطانيا ودول أخرى. لكنهم ينسون أنه لم يقل لزعماء هذه الدول أنكم لن تستطيعوا البقاء في الحكم لاسبوعين بدوننا، بل إنه لا يستطيع قول ذلك، لعلمه جيدا أن هؤلاء يستمدون شرعيتهم من الانتخابات التي أتت بهم إلى السلطة. ولأن أحد مصادر شرعية الزعماء والقادة حسب علم السياسة هي علاقاتهم بشعوبهم وقدرتهم على الدفاع عن بلدانهم في حالة العدوان الخارجي. إذن عندما يقول للعاهل السعودي أنك لن تبقى في السلطة لأسبوعين، فهو تشكيك واضح بشرعية الملك وعلاقته بشعبه أولا. وثانيا هو يشكك بقدرة الملك على حماية بلاده من أي اعتداء خارجي، عندما يقول له لن تتمكن من الحفاظ على طائراتك، لأنها ستتعرض للهجوم. هنا يجب أن نشير إلى أن المملكة، وعلى الرغم من أن موقعها الروحي قادر على توفير الحماية لها من قبل مليار مسلم أو يزيد، في حال تعرضها لاعتداء خارجي، لكن التشكيك في شرعية الملك والعائلة الحاكمة شيء آخر. فعدم قدرة الملك على الصمود لأسبوعين من دون الدعم الامريكي، كما قال ترامب علنا، هي رسالة للايرانيين أن وضع المملكة على الصعيد الداخلي ليس مستقرا، وأنها لن تستطيع الصمود أمامهم في أسبوعين من دون الدعم الامريكي. وهذه طامة كبرى تنزع صفة الحليف والشريك الاستراتيجي عن العلاقة الأمريكية السعودية. فما تم تسويقه هو أن الولايات المتحدة والسعودية تواجهان عدوا مشتركا هو إيران. فكيف بالحليف الأمريكي أن يوجه كل هذه الإهانات والشكوك بشرعية الحكم السعودي، في الوقت نفسه الذي يوجه فيه هذا العدو صواريخه إلى شرق سوريا مكتوبا عليها عبارة الموت لآل سعود؟
أحد مصادر شرعية الزعماء والقادة، هو علاقاتهم بشعوبهم وقدرتهم على الدفاع عن بلدانهم في حالة العدوان الخارجي
يقينا أن أي عربي قد ساءه ما سمع من إهانات وسخرية بحق المملكة، لكن الصمت المطبق من الجهات الرسمية السعودية وعدم التعليق أو الرد، ثم التصريحات المتوددة للرئيس الأمريكي والهروب من الإجابة الصريحة والواقعية على الاسئلة المتعلقة بالحدث من قبل ولي العهد السعودي، التي هي دليل على المفاجأة وعمق الصدمة، قد ألقت على الجميع جبلا من الإحباط من السياسات السعودية، وفي الوقت نفسه اليقين من أن هذه السلطات غير قادرة على الرد. فالذي تمادى بإهانتهم يعرف جيدا أنهم غير قادرين على الحياة، من دون أمريكا لأنهم بحاجة اليها خارجيا وداخليا. ولاحظنا كيف أن توازنهم اختل كثيرا عندما دفع بهم أوباما من قمة أولوياته لتحل إيران محلهم، ثم التوقيع معها على الاتفاق النووي. ولقد كان ذلك دليلا واضحا على خطأ استراتيجية العائلة المالكة. فالنجاح الاستراتيجي يُحتّم السيطرة على كل مكونات النجاح، أي أن مستوى النجاح وعوامله يجب أن تكون تحت يدك، وليس أن تكون عوامل النجاح في يد الاخرين، وتجلس وتتمنى أن يتصرف الآخرون كما تريد. فالنجاح الاستراتيجي يأتي بفرضه وليس بتمنيه. وقد كانت وما زالت الاستراتيجية السعودية خاطئة لانهم أعتمدوا لانجاحها على عوامل بيد الأمريكان وليس بأيديهم، لكن بعض النجاحات التكتيكية من وقت لاخر تزيح زاوية النظر لديهم عن الفشل الحتمي. لقد كانت وارداتهم من تصدير النفط ترليونات وترليونات كما قال ترامب، لكنهم عجزوا عن بناء قاعدة صناعية أو علمية أو اقتصادية أو تكنولوجية، تدفع عنهم الابتزاز الذي يواجهونه اليوم. مئات الالاف من الخبراء العراقيين والسوريين والفلسطينيين في كل الاختصاصات، ألقت بهم الحروب على قارعة الطرقات أو أنزووا في بلاد المهجر. كان بإمكان المملكة أن تحقق بهم وبخبراتهم نهضة سريعة في بضع سنين لا أكثر، من دون أن تصرف عليهم ريالا واحدا، لأنهم كوادر جاهزة للعمل. كما كان بإمكانهم أن يحافظوا على العراق سدا منيعا بوجه الأطماع الايرانية الشريرة، وأن لا يساهموا في تحطيمه وتحويله إلى قاعدة إيرانية بالضد منهم. وأن يحصنوا اليمن من الاطماع الايرانية بمد يد العون والنهوض له، من دون أن يخوضوا حربا بات الخروج منها بالنصر صعبا. وأن لا يورطوا أنفسهم في الملف السوري، ثم يتخلون عمن دعموا من المقاتلين. هذه الملفات جميعها كانت مساهماتهم فيها وفق الاجندة والارادة الامريكية.
لقد أماط ترامب اللثام عن أن العلاقة الامريكية السعودية لم تعد علاقة الحليف في الوقت الحاضر، إنها علاقة تجارية تحت شعار تدفع سوف نحميك، وإن لم تدفع لن نحميك. وهذا الموقف سوف يضعه أعداء السعودية في حساباتهم ويحاولون استثماره بالضد منها بطرق متعددة. وبالتالي هو إضرار فادح بمكانة المملكة إقليميا وإسلاميا وبصورة العاهل السعودي أيضا.
لكل ما تقدم يمكن القول بأن الرد على الاهانة والسخرية التي وجهها ترامب لن تأتي إطلاقا، وإذا كان البعض قد تصوروا بأن الرد السعودي على الموقف الكندي كان حازما ويخالف التقاليد السياسية السعودية، فإن الحزم بمثله مع ترامب ليس موجودا في منهج العائلة المالكة، بل إنهم حتى غير قادرين على القول (سنرد في الوقت والمكان الذي نحدده نحن) وهي عبارة دائما ما يرددها العاجزون من قادة الامة على كل اعتداء يقع عليهم.
سؤال أخير لوزير الخارجية السعودي، إذا كنتم لستم من (جمهوريات الموز) كي تتعامل كندا بمثل ذلك التصرف معكم كما تقول أنت، فلماذا تقبلون اليوم أن تكونوا من جمهوريات الموز أمام إهانات وسخرية ترامب؟
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية
إنها من ممالك الموز وليس جمهوريات الموز! لقد صدق الوزير!! ولا حول ولا قوة الا بالله