هل التطبيع قدر عربي لا يمكن تفاديه، وهل استهلك خيار المقاومة؟ سؤال يطرح اليوم ونحن نواجه وضعاً عربياً غير مسبوق، يلتقي فيه الحاكم العربي مع القاتل بدل المقتول، ومع الظالم بدل المظلوم، ومع السارق بدل المسروق. هل سنة 1948 الكارثية بعيدة عنا إلى هذا الحد؟ أكبر عملية سطو في التاريخ، ثم بموجبها تهجير شعب بكامله من أرض كان يعيش فيها المسلم والمسيحي واليهودي بأمان، تحت نعت واحد: فلسطيني؟ هذه السنة الدموية عاشها بعضنا في طفولته، وذاق مرارتها، وتركت آثارها على جلده.
يكفي أن نقرأ الأدبيات الفلسطينية والعربية والعالمية لندرك أن الجرح ما يزال ينزف إلى اليوم، ويزداد اتساعاً. لا يمكن، على الأقل بالنسبة لجيلنا وجيل أبنائنا أن يقبل بأن نكون مشاركين في مزاد من أقبح المزادات، التي يباع فيها الحق الفلسطيني. لا أتحدث هنا عن القضية الفلسطينية كقضية عربية فقط، ولكن أيضاً كقضية إنسانية ناصرها ويناصرها جزء كبير من أحرار العالم لأنها عادلة.
عالم يقاوم آلة المحو الاستعمارية التي عادت بكل نظمها القاهرة وآلاتها. هل المفكر الفرنسي باسكال بونيفاس، الذي فضح النخب الصهيونية المزيفة في فرنسا، عربي؟ تحمل البصاق وتلقى سيلاً من الشتائم في مطار بن غوريون، وهو يستعد لإلقاء محاضرة عن الحق الإنساني؟ شتم وأهين وكاد يضرب، والصور التلفزيونية شاهدة على ذلك، وهو ينادي لرجال الأمن الذين غابوا فجأة؟ جرمه الأوحد أنه يرى في القضية الفلسطينية حقاً إنسانياً.
أكثر من هذا، وزير الخارجية الفرنسي الأسبق دومنيك دوفيلبان، المثقف الكبير، لم يستطع الصمت حينما اعتبر صفقة القرن، خديعة القرن «كيف يمكن أن يطلب من شعب حر، لم يظلم ولم يعتد على أحد، وقاتل من أجل حريته، أن يبيع ارضه ووطنه ويتخلى حتى عن حقوقه الدنيا التي قبلت بها إسرائيل في اتفاقيات أوسلو؟» لم يعد العرب اليوم وحدة متجانسة، متفقة، يحكمها المصير المشترك، ولا أصحاب أية مبادرة. هذا مثال صغير من مئات الأمثلة لناس ليسوا عرباً ولا مسلمين.
كيف أصبح نتنياهو شريكاً في السلام وهو متابع قضائياً في إسرائيل نفسها بتهم الفساد؟ هو الذي لم يدخر جهداً في ارتكاب أبشع الجرائم ضد الفلسطينيين؟ لقد أصبح مرآة عاكسة تفضح ضعف أنظمتنا العربية، ويقول علناً ما مارستْه سرّاً. الصورة المتخفية التي لا يقولها الحاكم العربي هي الانهيار الكلي، بحيث أصبح كل واحد يركض في جهة، لكي يلتصق بقطعة الخشب خوفاً من الغرق. وينسى أنه يضرب المسمار ما قبل الأخير في النعش العربي. العد التنازلي في علاقة العرب بإسرائيل لم يبدأ اليوم. منذ اتفاقيات كامب ديفيد والمسار يتعمق ويتسع، ليصبح حقيقة ملموسة. ما يحدث اليوم ليس جديداً ولا غريباً، ولكنه مجرد حالة يتسارع فيها التطبيع تحت الهيمنة الصهيو-أمريكية، وفي غياب الحليف الروسي أو الصيني أو غيرهما، لأن حلفاء الأمس تغيروا أيضاً وفق مصالحهم. لهذا نطرح السؤال الطبيعي: ماذا ربح العرب من التقارب مع إسرائيل؟ هل خدموا فلسطين حقيقة ما دامت هي المعيار الأوحد لتحديد جدوى العلاقة مع إسرائيل؟ هل كفت إسرائيل عن أن تكون دولة احتلال؟ وهل أوقفت جرافاتها وآلات القتل ضد الفلسطيني الذي أصبح دمه مستباحاً؟ ما نراه هو العكس.
الاحتلال يتسع أكثر، سرق القدس بشكل معلن، في ظل صمت دولي متواطئ. يستعد اليوم لالتهام الضفة الغربية جزئياً أو كلياً؟ فكيف خدم الحاكم العربي الفلسطينيين، أصحاب الحق الأول والأخير، وهو يضعفهم؟ فرض عليهم عزلة غير مسبوقة وتركهم يواجهون قدراً قاسياً، يضاف إلى عزلة الاحتلال التي حملتها معها اتفاقيات أوسلو التي فشلت حتى في تجسيد فكرة الدولتين، التي كانت إسرائيل قد وافقت عليها قبل أن تتراجع بعد أن وجدت دعماً كبيراً من الحاكم العربي.
ناهيك عن المستوطنات المزروعة في الجسد الفلسطيني، التي تمنع عملياً أية إمكانية لقيام دولة، أو حتى ربع دولة، في الضفة الغربية. هذا الوضع جعل من الفلسطيني هندياً أحمر، سرق منه كل شيء، حتى التراب من تحت رجليه، وعندما انتفض، وُصِم بالتوحش والإرهاب، وحرم حتى من حق الدفاع عن الحد الأدنى للعيش. التقارب بينك وبين من سرقك ويداه ملطختان بالدم، يفترض أن تكون لديك القوة الكافية لفرض رؤيتك على عدوك، وتملك أوراقاً تستطيع أن تناور بها وتجبر عدوك على الاستماع إليك بجد. الانتفاضات الطويلة والمرهقة للعدو، سكنت اليوم، وقد ينشأ بديلاً لها، شيء آخر لا نراه الآن بوضوح، لكنه سيأتي حتماً، لأن الظلم والقسوة عمرهما محدود. لكي تتقارب، تحتاج على الأقل إلى ند صادق، يحترمك ويقدرك ويرى فيك نداً حقيقياً. العرب اليوم في حالة ضعف غير مسبوق، لا استطاعوا تكوين دولة حقيقية ولا مواطنة عميقة حامية للمستقبل، ولا حتى نخب مقاومة، كلما رفعت رأسها داسوا عليها بالحذاء العسكري أو بالتجويع، ولا بنوا شبكة دفاعية عن أراضيهم ومواجهة عدو لا يؤمن إلا بالقوة.
الأراضي العربية مستباحة، والسماء سكنوها ويراقبون أنفاسنا وعوراتنا. لقد تم تدمير كل الطاقات العربية الخلاقة (احتلال العراق، تفتيت سوريا، وتحييد مصر) أي تقارب إذن سيكون محكوماً بمنطق القوي والضعيف. هل استرجعت مصر كل أراضيها المنهوبة، وهل تملك اليوم حق التصرف في سيناء بعد اتفاقيات كامب ديفيد؟ من شجع الحركات المتطرفة في سيناء غير إسرائيل؟ من سلحها؟ من أنشأ مخابر للقاعدة وداعش؟ اليد الإسرائيلية الخفية حاضرة لتدمير مصر التاريخية. من يمنع اليوم وصول مياه النيل إلى مصر؟ من الغباء اعتبار إثيوبيا دولة تتحرك بحريتها؟ من يحمي سد النهضة أصلاً؟ هل استرجع الأردن حقه من أراضيه، ومنطقة الأغوار التي تهدد إسرائيل بضمها، والتي تمتد حتى شماليّ البحر الميت على مساحة 1.6 مليون دونم، في محاذاة الحدود الأردنية وتشكّل ما يقارب 30 في المئة من مساحة الضفة الغربية؟ ما يمنح إسرائيل القوة اليوم قد لا يتوفر غداً، لهذا هي تربح الوقت على الجبهات العربية والدولية، لكن العرب لا يدركون ذلك، ويرون في إسرائيل ليس فقط حليفاً ولكن قوة حامية. نعم، هي قوة كبيرة في المنطقة، بل الأكبر والأكثر تسلحاً وتقدماً تكنولوجياً، لكن الديمومة المبنية على ظلم شعب بكامله مستحيلة.
كبريات الإمبراطوريات انهارت عندما قاومها المظلومون. للأسف، فهذا التطبيع العربي سيشهد في الفترات القادمة تمزقات داخلية مفجعة، وهو الخطوة الأولى لبداية الانحدار نحو جهنم النهايات، حيث يصبح المال العربي، بعد الأرض، في خدمة الهيمنة الإسرائيلية التي لا تؤمن إلا بالعربي الميت، كما قال الصهيوني المتطرف، جوش بوزنستن: أعزائي اليهود، اقتلوا العرب الآن، العربي الجيد الوحيد هو العربي الميت. العربي اليوم مهزوم، لكنه ليس ميتاً.
…نعم اميركا والكيان الغاصب يعتبرون ان شعوبنا هي هنود حمر جديدة .يفكرون بالابادة الجماعية لنا. لكن هيهات وهيهات منا الذلة .
االاقصى هناك اله عز جلاله يحميه وشعب من جبابرة بالمرصاد .
بريطانيا أساس البلاء
حتى لو طبع كل العرب مع الصهاينة فلن يهضم حق فلسطين مدام اهلها متمسكون بخيار المقاومة و التحرير.
شكرًا أخي واسيني الأعرج. ومع ذلك سنبقى أحياء. برأيي هناك فارق بين حالة الهنود الحمر والفلسطينيين رغم أن الحالتين متشابهتان كونهما ابادة شعب وسرقة أرضه. في حالة فلسطين هناك البعد الناريخي الذي مهما حاول الصهاينة طمسه أو تزويره ستبقى حقائق هذا التاريخ. وهناك البعد العربي الحضاري والإسلامي طبعًا ولهذا كما جاء في المقال إسرائيل تحاول استغلال قوتها اليوم بقدر ماتستطيع، حيث يدرك الصهاينة أكثر من غيرهم أن الزمن لن يكون في صالحهم مستقبلًا مهما عظمت قوتهم اليوم. وفي النهاية لاديمومة للظلم.