يشهد العالم العربي موجة غير مسبوقة لمقاطعة المنتجات والبضائع التي تعود إلى الشركات الأمريكية، وبشكل أساس تلك الداعمة للاحتلال الإسرائيلي، أو التي عبَّرت عن تأييدها للحرب الوحشية التي تستهدف قطاع غزة، وتمتد هذه المقاطعة إلى بعض الشركات الأوروبية أيضاً، من تلك التي تورطت في تأييد معلن لإسرائيل.
موجات المقاطعة ليست جديدة في العالم العربي، وتظهر بين الحين والآخر، فضلاً عن أن الشارع العربي لا يزال يقاطع إسرائيل ذاتها، على الرغم من إقامة علاقات رسمية بين بعض الأنظمة العربية، وتل أبيب، لكن هذه العلاقات لا تزال متوقفة عند المستوى الرسمي دون الشعبي، والمؤكد أن موجة المقاطعة الحالية غير مسبوقة مطلقاً، إذ أن بعض المنتجات الأمريكية التي تحظى بإجماع على مقاطعتها تكاد تختفي بشكل شبه تام من بعض الأسواق مثل، الأردن ومصر والمغرب، وفي الأردن تكاد لا تجد علبة مشروبات غازية واحدة تحمل العلامة التجارية الأمريكية في أي مطعم أو بقالة، وكذا الحال في مصر، التي تحول الناس فيها إلى منتجاتهم المحلية.
مقاطعة البضائع أو الشركات أو الخدمات هي بطبيعة الحال أحد أشكال العقوبات الاقتصادية، وهي عقوبات معروفة على مرّ الزمان والمكان، وسبق أن مورست من قبل، بل إن الولايات المتحدة تستخدم الطريقة نفسها في عقاب خصومها، ولديها قوائم طويلة من العقوبات، وسبق أن تعرض العراق لعقوبات اقتصادية قاسية أدت إلى معاناة استمرت لسنوات طويلة، خلال فترة حكم الرئيس الراحل صدام حسين.
المقاطعة هي إحدى وسائل الاحتجاج السلمي الذي يقوم به المدنيون، وهي وسيلة لا تستطيع الدول ولا السلطات إبطالها ولا ملاحقتها، لأنها ببساطة ليست فعلاً، وإنما هي امتناع عن فعل،
وعلى الرغم من أن العقوبات الاقتصادية – والمقاطعة هي أحد أشكالها- معروفة من قبل ويمارسها العالم على الدوام، كأحد أشكال العقاب السلمي، إلا أن الكثيرين في العالم العربي ما زالوا يتساءلون عن جدواها، وما إذا كان من الممكن أن تكون مؤثرة، وواقع الحال أن الحقائق التي تم تسجيلها في السابق وحالياً، تؤكد أن «المقاطعة» ربما تكون العقوبة الأقسى والأكثر جدوى من أجل الضغط على الشركات العالمية ودفعها لوقف انحيازها إلى إسرائيل، أو على الأقل لدفعها حتى تكون بمنأى عن السياسة، فلا تقدم الدعم لا للفلسطينيين ولا للاحتلال.
مراجعة بسيطة وسريعة تُثبت أن الأسواق العربية قادرة فعلاً، وبلا شك على معاقبة الشركات الأجنبية التي تدعم الاحتلال، وتستطيع أن تُكبد هذه الشركات خسائر قاسية إذا ما قرر المستهلك العربي مقاطعتها. ففي عام 2019 انتهت سلسلة مطاعم أمريكية شهيرة للوجبات السريعة إلى إغلاق أبوابها بشكل كامل في الأردن، بعد أن قاطعها الأردنيون لفترة طويلة أدت إلى انهيارها، وما زالت غير موجودة حتى الآن في الأردن. لكن ثمة ما هو أهم من الأمثلة القُطرية وهو نتائج أعمال الشركات الكبرى، ومثالها ما أعلنته شركة «ماكدونالدز» الأمريكية التي تبين أن نمو المبيعات تراجع إلى أقل من 4% في الربع الأخير من عام 2023، مقارنة بنمو كان عند 8.8% في الربع السابق، أي في الربع الثالث من العام الماضي، وهذا يعني أن نمو المبيعات نزل إلى أكثر من النصف خلال الشهور الثلاثة الأخيرة من عام 2023، أي في أعقاب تداول صور الوجبات المجانية التي قدمتها «ماكدونالدز- إسرائيل» للجنود الغزاة الذين كانوا يتأهبون لاقتحام قطاع غزة.
من المهم الإشارة إلى أن لدى شركة «ماكدونالدز» أكثر من 40 ألف مطعم للوجبات السريعة في العالم، 5% فقط منها موجود في منطقة الشرق الأوسط، وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الخمسة في المئة كانت قادرة على ضرب المبيعات الكلية للشركة بسبب أن أسواق المنطقة العربية مهمة، وبسبب القوة غير المسبوقة للمقاطعة، طبعاً مع اعترافنا بأن مقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال لا تتوقف عند المستهلك العربي ولا تقتصر على أسواق الشرق الأوسط، وإنما تمتد إلى العديد من دول العالم بما في ذلك أوروبا وافريقيا وآسيا. ثمة أمثلة كثيرة على أن المقاطعة الاقتصادية كانت عقوبة مؤثرة وكبدت الشركات المستهدفة خسائر فادحة، فضلاً عن كون المقاطعة هي إحدى وسائل الاحتجاج السلمي الذي يقوم به المدنيون، وهي وسيلة لا تستطيع الدول ولا السلطات إبطالها ولا ملاحقتها، لأنها ببساطة ليست فعلاً، وإنما هي امتناع عن فعل، فقوات الأمن والشرطة والجيش المدجج بالسلاح يستطيع أن يفض اعتصاماً بالقوة أو يمنع تظاهرة من المسير، لكنه قطعاً لا يستطيع أن يُجبر مستهلكاً في السوبر ماركت على شراء منتج بعينه، أو يجبره على تناول طعامه في مطعم دون آخر.. وهنا أحد مظاهر القوة في هذا النوع من الاحتجاج.
كاتب فلسطيني