القاهرة ـ «القدس العربي»: «حين يوجد المجتمع المتخلف… يوجد الثوار» (أحمد بهاء الدين)
يبدو أن الحديث عن انقلاب يوليو/تموز 1952 لن ينتهي، خاصة أن مصر لم تزل تحيا تبعات ما حدث منذ ما يُقارب السبعين عاما. ولم تزل الدراسات والمؤلفات تتوإلى للحديث عن بعض من جوانب ذلك الحدث الجلل، الذي غيّر وجه مصر تماماً. وقد يطلق البعض عليها (ثورة) رغم ما تكشّف من أكاذيب ومآسٍ جرّاء ما حدث وأحدثته يوليو ونظامها الحاكم. ومن هذه المؤلفات الصادرة حديثاً هذا العام، كتاب «هل انتهت ثورة يوليو؟» للباحث والكاتب المصري فكري أندراوس، والصادر عن دار الثقافة الجديدة في القاهرة. ويأتي عنوان الكتاب عبارة عن سؤال يحاول المؤلف الإجابة عليه من خلال صفحات الكتاب، مناقشاً مظاهر وتبعات يوليو، التي تعيشها مصر حتى الآن، عدم الانتهاء هذا أو الاستمرار يتمثل في أزمة الديمقراطية، التي تناستها مصر تماماً، وخضعت بعد ذلك إلى ديكتاتورية الحاكم المطلق، رغم المؤسسات الهشة والكاريكاتيرية، المسماة بمؤسسات الدولة. يستعين المؤلف بالعديد من مذكرات مَن عاصروا تلك الفترة، إضافة إلى الشهادات والمقابلات الشخصية، وهو ما يضيف إلى حدٍ كبير وجهة نظر مغايرة لما حدث، وكان سبباً في ما يحدث الآن. وهنا استعراض سريع لأهم ما جاء في الكتاب، الذي يسرد في تفصيل دقيق، بداية هذه الأزمة وتبعاتها بين البكباشي واللواء.
يقول المؤلف في نهاية بحثه.. «هذا الكتاب عرض متواضع لوجهة نظر مواطن أتاحت له الظروف أن يعيش بعض أحداث تلك الفترة منذ بدايتها، وأن يقرأ ويبتعد ويفكر باستقلالية بقدر الإمكان، وأن يُغير بعضا من أفكاره على مرّ السنين». لذا يبدأ بالتساؤل.. هل فكر يوليو بتغييب الديمقراطية انتهى بانتهاء فترة عبد الناصر أو السادات أو حتى مبارك؟
وتأتي الإجابة بداية من تهميش وإهانة محمد نجيب ـ أول رئيس مصري ـ وهو ما عُرف بأزمة مارس/آذار 1954، وقام رفاق الانقلاب ومعهم الإعلام بتشويه صورة نجيب، وإلصاق التهم الكاذبة به وبتاريخه، وانتهى الأمر بأن يُسمى الانقلاب بـ(ثورة ناصر). ويذكر خالد محيي الدين في مذكراته «الآن أتكلم» أن مطالبة عبد الناصر بالديمقراطية، ورفض باقي الضباط كانت مجرد تمثيلية. ويضيف محيي الدين أن عبد الناصر رتّب قبل الثورة علاقته بالأمريكيين عن طريق علي صبري. ويمكن استعراض موقف محمد نجيب هنا من محاولة إجباره على قبول رئاسة الوزراء، ذاكراً في مذكراته (كنتُ رئيساً لمصر) «لأننا اتفقنا على أن يبتعد الجيش عن السياسة… فتولي الوزارة من قِبل ضابط يُعد سابقة في تاريخنا الحديث، لا أحد يعرف إلى أين ستجُر البلاد».
التطهير الثوري!
لم يكن مفهوم التطهير عند رفاق انقلاب يوليو سوى تصفية الخصوم، بعيداً عن فكرة القضاء على الفساد، ويظهر ذلك في القضاء على الأحزاب، فتم حلها ومصادرة صحفها وأملاكها، فالهدف كان إزالة أي وجه من أوجه المعارضة من طريقهم، خاصة حزب الوفد، الذي كان يمتلك شعبية كبيرة وقتها. ومن ناحية أخرى كان تغلغل الضباط في السلطة المدنية وجه أخر من أوجه السيطرة، ففي يناير/كانون الثاني 1967 كانت نسبة الوزراء العسكريين 65%، والتي تغيرت في مارس 1968 إلى 39%.
لكن .. هل تغيّر الحال؟ هنا يستشهد المؤلف بمقال لداليا عثمان في جريدة «المصري اليوم» بتاريخ 31 يوليو 2015 .. حيث يقول السيد اللواء مدير الكلية الحربية لخريجي الدفعة الجديدة «أنتم قادة المستقبل، ستكونون الوزراء والمحافظين، السفراء والرؤساء والمديرين».
أزمة مارس
لم تكن أزمة مارس 1954 سوى أسلوب ونهج للحكم في مصر حتى الآن، هذا الحدث وإن كان تاريخياً، وأنتج كارثة سماها محمد حسنين هيكل ـ كاتب عبد الناصر الملاكي ـ بـ(النكسة) إلا أنه يكشف طبيعة السلطة وتفكيرها. ويعود المؤلف إلى مذكرات خالد محيي الدين مرّة أخرى، فيقول.. «خاض عبد الناصر معركة 1954 بكل ثقله، واستطاع أن يُسيّر مظاهرات تهتف بسقوط الديمقراطية ـ تماماً كمظاهرات المطالبة بعدم التنحي في 1967 ـ بالإضافة لتدبيره ستة انفجارات لتوحي بالحاجة إلى حكومة قوية، وأيضاً إضراب السكك الحديدية وعمال النقل». وبالمقارنة يعرج المؤلف على أوراق عبد الناصر، التي حررتها ابنته، حيث لم يذكر شيئا عن أزمة مارس، إلا باختصار شديد عبّر عنه بوجود صراع داخل مجلس قيادة الثورة بين أعضائه، انتهى بإقالة محمد نجيب وتولي عبد الناصر رئاسة المجلس ورئاسة الوزراء.
شهادة نجيب
ونختتم هذا الاستقراء السريع للكتاب بشهادة مختصرة لمحمد نجيب، جاءت في كتابه (كنت رئيساً لمصر) فيقول.. «خلصتهم من فاروق، وخلصهم سليمان حافظ من كبار السياسيين والأحزاب، وخلصهم يوسف صدّيق من نفسه، وخلصتهم أحداث ضباط الفرسان من خالد محيي الدين، وتخلصوا منّي، وتخلص عبد الناصر من أغلبهم، وبقي هو وعبد الحكيم عامر وأنور السادات وحسين الشافعي. أما هو وعامر فقد تخلص منهم الإسرائيليون في حرب يونيو/حزيران، ولم يبق سوى السادات، الذي عرف بدهاء الفلاح المصري كيف يتجنب الأهواء والعواصف ـ ويلبد في الدرة ـ ويقول على كل شيء.. صح».