تلقي الحرب العدوانية الإجرامية على غزة، التي تشنّها الدولة الصهيونية، بآثارها على اقتصادها، في جميع المجالات وعلى كل المستويات. وقد بدأت بواكير الأزمة تطفو على السطح، وازدادت معها المخاوف من دخول الاقتصاد الإسرائيلي إلى حالة من الركود والتراجع والعجز والتضخم، إضافة إلى ارتفاع الصرف وانخفاض الدخل. وتدل كل المعطيات والتقديرات التي نشرتها جهات رسمية وغير رسمية أن الحرب مكلفة جدا، وسيدفع عامة الإسرائيليين ثمنها، مع إصرار وزير المالية اليميني المتطرف (اقتصاديا أيضا) على عدم رفع الضرائب على الأغنياء والشركات الكبرى، ما يعني أن الحل سيكون تقليصا في الخدمات الاجتماعية وانكماش المداخيل الفردية، ما قد يراكم المزيد من الغضب على الحكومة المسؤولة عن فشل السابع من أكتوبر.
وإذ يبدو من الواضح والجلي ضخامة تأثير الحرب في الاقتصاد، فإن الاتجاه المعاكس ليس واضحا، وليس جليا ويبدو هلاميا في المرحلة الراهنة. ما يمكن قوله حاليا هو أن الاقتصاد الإسرائيلي قادر على تحمل أعباء الحرب بشكلها الحالي لمدة محدودة، وستكون الحكومة الإسرائيلية مضطرة قريبا إلى الشروع باتخاذ خطوات «صعبة» لمنع تفاقم الأزمة، التي تخلفها الحرب، خاصة أن تصريحات القيادة الإسرائيلية تشير إلى أنّها ستكون حربا طويلة، ولها امتداد لبناني من العيار الثقيل، اقتصاديا على الأقل. لقد أظهر الشارع الإسرائيلي المعبأ والمجند للحرب بالكامل، قدرة على التحمّل، تحت وطأة الصدمة، وفي ظل الوعود بالنصر وبالحسم. لكن الأمور بدأت تتغير ولو ببطء بعد أن تبين أن الثمن يزيد والحسم بعيد المنال، وقضية المحتجزين مستعصية.
أظهر الشارع الإسرائيلي قدرة على التحمّل، في ظل الوعود بالنصر. لكن الأمور بدأت تتغير بعد أن تبين أن الثمن يزيد والحسم بعيد المنال، وقضية المحتجزين مستعصية
بعد أسابيع من التباهي والثقة بقدرة الجيش على النصر وسحق «حماس»، تبدأ نبرة التشاؤم تسيطر على الخطاب السياسي الإسرائيلي، تبعا للفشل في الحسم وللإخفاق في تحقيق أي هدف استراتيجي. وينسحب التشاؤم على البعد الاقتصادي أيضا، مع أن الاقتصاد الإسرائيلي قوي والناتج المحلي يصل الى 55 ألف دولار للفرد الواحد، لكن الحرب بدأت تنخر فيه وتشل بعض جوانبه المهمة. ولا يفيد إدراك حجم المساعدات الأمريكية الضخمة في التخفيف من وطأة النبوءات القاتمة، والتقديرات بأن الحرب الحالية على غزة ليست من الحروب التي يعقبها نمو، بل هي من النوع الآخر من الحروب التي تجلب ركودا وتراجعا. ولعل في النقاط التالية، بعض الجواب على هذا التشاؤم الاقتصادي:
ـ تدل التقييمات الأولية والرسمية المعلنة لوزارة المالية الإسرائيلية أن تكلفة الحرب تقدّر بحوالي 300 مليون دولار يوميا. والتقدير الحالي هو أن تكلفة الحرب ستصل إلى ما يقارب 60 مليار دولار. هذه تكلفة مرشّحة للارتفاع، لأن هناك تكاليف عديدة لم تؤخذ بالحسبان، ولأن القيادة السياسية ـ الأمنية تتجه نحو حرب طويلة الأمد، قد تتجاوز كلفتها جميع التوقعات.
ـ المعادلة العامة للاقتصاد الإسرائيلي في ظل الحرب هي أن الصرف الحكومي يرتفع بشكل حاد، في حين أن الدخل ينخفض كثيرا بسبب انحسار النشاط الاقتصادي، وهبوط جباية الضرائب. سيؤدي هذا إلى عجز كبير جدا في الميزانية يقدّره «بنك إسرائيل» بحوالي 60 مليار دولار عام 2024 (بعدما انتهى عام 2022 بفائض في الميزانية). قلّة من الاقتصاديين في إسرائيل يدعون إلى سد العجز عبر رفع الضرائب، ولكن الأكثرية في وزارة المالية والبنك المركزي والحكومة هم من النيوليبراليين، الذين يرفضون هذا التوجّه مبدئيا. وقد نشر «منتدى كوهيليت»، العقل المدبّر لليمين الإسرائيلي، تقريرا حذّر فيه من رفع الضرائب، داعيا إلى تغطية نفقات الحرب من خلال تقليص الصرف الحكومي في مجالات أخرى. في كل الأحوال ستدخل إسرائيل في عجز كبير في الميزانية، ليس المؤكد أنها ستكون قادرة على الخروج منه بالوسائل التقليدية.
ـ بلغ عدد الذين جرى إخلاؤهم من منطقتي غلاف غزة والحدود اللبنانية حوالي 150 ألفا، وتعيش غالبيتهم في الفنادق والبيوت المستأجرة، وتقدر تكلفتهم اليومية بما يقارب 12 مليون دولار يوميا، وتصل إلى 4.5 مليار دولار سنويا. ولا يشمل هذا التعويضات لأصحاب ألف مصلحة اقتصادية مغلقة في المنطقة المتاخمة للبنان، ولآلاف المصالح التي أُغلقت، أو تضررت في منطقة غلاف غزة وما حولها. كما لا يشمل إصلاح وترميم الأضرار الجسيمة في البيوت السكنية والمرافق والبنى التحتية. كل هذا يشير إلى أن العجز في الميزانية لن ينحسر بعد انتهاء الحرب، بل ربما يتعمّق أكثر تبعا لتكلفة تعويض الخسائر الضخمة.
ـ وفق المعطيات الرسمية الإسرائيلية هناك 760 ألف عامل تعطّلوا عن شغلهم بسبب الحرب. هناك كذلك عشرات آلاف المصالح الصغيرة المغلقة والمتضررة، ولا أحد يعرف مصيرها على المدى البعيد. كم التعويضات المطلوب هو ضخم جدا وسيشكل حملا ثقيلا على الميزانية الإسرائيلية.
ـ تجنيد ما يربو على 300 ألف جندي احتياط، سحبهم من سوق العمل وعطّل مصالح تجارية وصناعية كثيرة، وهذا يشكّل ضغطا كبيرا على الاقتصاد الإسرائيلي، ويبدو أنه كلما طال زمن وجودهم في الخدمة العسكرية، زاد العبء عليه أكثر فأكثر، خاصة أن المجندين سيتلقون أجراً، والأهم من ذلك هو التعويضات التي ستعطى لهم عن خساراتهم، والتي قد تفوق أجورهم بمجملها، كما حدث بعد حرب أكتوبر 73، حيث وصلت التعويضات إلى ثلاثة أضعاف الأجور.
ـ من بين المجندين في قوات الاحتياط، هناك 70 ألف طالب جامعي، وقد جرى تأجيل افتتاح السنة الدراسية ثلاث مرّات، والجامعات ما زالت مغلقة. وقد صرّح رؤساء الجامعات بأنه إذا لم يتم استئناف الدراسة خلال أسابيع معدودة، فسوف يضطرون إلى إلغاء العام الدراسي. خسارة السنة التعليمية لها آثار دراماتيكية على الاقتصاد، لأنه سيعطّل دخول عشرات الآلاف من الخريجين المؤهلين إلى سوق العمل، وإلى نقص أكبر في الأطباء والمهندسين والفنيين والمهنيين عموما. هناك محاولات لإيجاد حلول، خاصة أن جنود الاحتياط بدأوا بالتحذير من تمييز ضدهم إذا جرى افتتاح السنة الدراسية من دون مشاركتهم. ويشكل هذا الأمر ضغطا كبيرا لتسريح أعداد كبيرة من جنود الاحتياط الجامعيين.
ـ يشكل الحصار البحري اليمني على السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، عبئا إضافيا على الاقتصاد الإسرائيلي، يُضاف إلى إضرار حركة المقاطعة المتسعة باستمرار. وتصل نسبة البضائع التي تحملها السفن التي تعبر البحر الأحمر نحو إسرائيل، حوالي 40% من الواردات الإسرائيلية. والنتائج الفورية لهذا الحصار هي ارتفاع في البضائع المستوردة من شرق آسيا، وتوقف العمل في ميناء إيلات تماما. يساهم هذا الحصار في خلق الانطباع العام أن الدولة الصهيونية، في ظل عدم الاستقرار، لم تعد مكانا آمنا للاستثمارات، التي تشكّل العمود الفقري لصناعة «الهاي تك» المتطورة في إسرائيل.
ـ يتوقّع المحللون الاقتصاديون أن يجري تراجع كبير في معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي، التي وصلت عام 2022 إلى 6.5% وفي 2021 إلى 8.6، ويقدر المتفائلون منهم أن ينحسر النمو إلى 1% فقط، ويرى آخرون أنّه لن يتجاوز الصفر. ويخشى بعض المحللين من «عقد مفقود» في النمو الاقتصادي، وليس مجرد أزمة عابرة. وإذ تضطر الحكومة إلى أخذ القروض الضخمة، ويبقى الناتج المحلي الإجمالي كما هو، فإن هذا سيؤثر سلبا في نسبة الديون للناتج المحلي، التي تبلغ حاليا 60%، وارتفاعها سيؤثر في التصنيف الائتماني لإسرائيل، ما قد يزيد من تكلفة القروض.
ـ وفوق هذا كله، هناك ارتفاع حاد في معدلات البطالة، التي من المتوقع ألا تعود إلى ما كانت عليه سابقا. كما انخفض سعر الشيكل وانخفضت الأسهم في البورصة، وقد أدى النقص في الأيدي العاملة الفلسطينية، بسبب الإغلاق التام، والأجنبية، بسبب الهروب من البلاد، إلى تعطيل وتراجع في فروع البناء والزراعة والصناعة.
ـ كما تخشى الدوائر الاقتصادية من هروب المستثمرين، الذي بدأوا بالابتعاد قبل السابع من أكتوبر، بسبب أزمة الإصلاحات القضائية. ولن تغامر صناديق الاستثمار الكبرى في اقتصاد غير مستقر وفي حالة انحسار.
ـ من المتوقّع أن تشهد إسرائيل ركودا اقتصاديا، قد يستمر لسنوات، تبعا لانخفاض الطلب. وفي كتابه «الاقتصاد الإسرائيلي» (الذي سيصدر بالعربية قريبا) يصل أستاذ الاقتصاد، يوسي زعيرا، إلى استنتاج مفاده، أن الحروب ضد الفلسطينيين تؤدي تحديدا إلى ركود اقتصادي، في حين ان الحروب مع الدول العربية خلقت مشاكل اقتصادية أخرى، ولكن ليس ركودا. هذا ما حدث فعلا بعد الانتفاضة الأولى، حيث دخل الاقتصاد الإسرائيلي إلى حالة ركود لم يخرج منها إلا بعد موجات الهجرة الروسية. أمّا الانتفاضة الثانية فضربت في العمق: بطالة مرتفعة، انهيار الاستثمارات، إغلاق عشرات المصالح التجارية الصغيرة، تراجع السياحة ونمو سلبي في الناتج المحلي بنسبة 3%.
من الواضح أن تأثير الحرب على الاقتصاد هو من الوزن الثقيل، وقد وصل هذا التأثير إلى درجة لا يمكن لصنّاع القرار السياسي والأمني أن يواصلوا تجاهله، ما يجبر القيادة الإسرائيلية على اتخاذ قرارات تسريح جزء كبير من جنود الاحتياط، لإنقاذ سوق العمل والمصالح الاقتصادية. قد يقول قائل، بأن إسرائيل تستطيع تسريحهم والاستمرار في حربها كالمعتاد، لكن الأمر لا يبدو كذلك، خاصة أنها تحتفظ بقوات كبيرة جدا على الحدود اللبنانية. وعليه فإن العامل الاقتصادي بدأ يضغط وأصبح له تأثير مهم، وإن لم يكن حاسما، في قرار «تقليص» الحرب، إذا حصل تقليص فعلا، فهناك علامات استفهام حول حصوله.
كاتب وباحث فلسطيني