ما زال جون كيري يحاول اشاعة التفاؤل بقرب انعقاد مؤتمر جنيف -2 . قال مؤخراً إن موعد المؤتمر ‘يمكن ان يُحدد خلال ايام’ .
المبعوث الاممي الأخضر الإبراهيمي لا يشاطر كيري تفاؤله المصطنع. مصادر ديبلوماسية اممية نسبت اليه دعوتـه الاميـن العـام للامـم المتحـدة بان كي مون الى ان يقـوم، خلال الاجتمـاع المقبـل لـِ’الثلاثي الدولـي’ الروسي ـ الامريكي ـ الأممي في 25 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، بتحديد موعد المؤتمر ليضع الجميع امام الامر الواقع .
حتى لو فعلها بان كي مون، فإن فعلته لن تقدم او تؤخر كثيراً لأسباب ثلاثة:
اولها، ان نفوذ الولايات المتحدة وتأثيرها في دول المنطقة قد تضاءلا لدرجة اصبحت معها غير قادرة على إقناع اللاعبين الإقليميين والمحليين بالموافقة على المشاركة في المؤتمر.
ثانيها، ان موافقة اللاعبين الإقليميين المبدئية على المشاركة لا تكفي، ذلك ان ‘الإئتلاف الوطني لقوى المعارضة السورية’، ومن ورائه السعودية، يصرّ على إقصاء الرئيس بشار الاسد عن السلطة وإبعاد ايران عن المؤتمر كشرط للموافقة على حضوره. فلا سوريا يمكن ان توافق على هذا الشرط، ولا امريكا يمكنها تجاوز موقف روسيا السلبي في هذا المجال.
ثالثها، حتى لو افترضنا ان ‘الإئتلاف’ والسعودية وافقا على الشـرط المذكور، فإن بعض فصائل المعارضة السورية المسلحة، ولاسيما ما يمكن تسميتها فصائل ‘الإسلام الجهادي’ (تحديداً ‘الدولة الإسلامية للعراق والشام’ و’جبهة النصرة’) لن توافق ابداً على حضور المؤتمر، وستستمر في الحرب.
هل يعقل عقد مؤتمر جنيف – 2 مع استمرار حال الحرب؟
انه خيار عقيم، ذلك ان فصائل ‘الإسلام الجهادي’ استطاعت السيطرة على معظم المناطـق والمواقـع التي كان ‘الجيش السـوري الحر’ ( المـوالي شكلياً لـِ’الإئتلاف’) قد هيمن عليها. استمرار الحرب يؤدي الى استفحال الازمة الإنسانية والاجتماعية في سورية مقرونةً بإنذارات من حكومتي الاردن ولبنان بالتوقف عن استقبال اللاجئين السوريين، نظراً لعدم القدرة على تحمّل أعبائهم الثقيلة.
الحقيقة ان ثمة ظاهرة سياسية وعسكرية نامية ما عاد في وسع احد ان يتجاهل وجودها السياسي ونشاطها الميداني، انها ظاهرة ‘الإسلام الجهادي’ وصعود تنظيمه الاكثر فعالية ‘الدولة الإسلامية في العراق والشام ‘ (المعروف باسم ‘داعش’)، وشمول انشطته القتالية العراق وسورية ومؤخراً لبنان.
على معظم شمال سورية، يسيطر تنظيم ‘داعش’ على مركز محافظة واحدة، الرقة، وقد اطلق عليها اسم ‘ولاية الرقة’، بعد ان اقام فيها ‘امارة’ ستكون نواة دولة الخلافة في بلاد الشام وبلاد الرافدين. وقد اتخذت امارته سلسلة تدابير، منها منع الشبان من ارتداء سراويل ‘الجينز’، وفرض ارتداء العباءة والبرقع على النساء، وحظر التبرج واستعمال العطور عليهن، والخروج من المنزل من دون مرافقة احد محارمهن الذكور، وزيارة طبيب ذَكَر، ومنع الإختلاط في المعاهد والمدارس.
مصادر تمويل ‘فصائل الإسلام الجهادي’ متعددة، ابرزها تبرعات وهبات من شخصيات ثرية في مختلف ارجاء عالم العرب، ومداخيل ‘ذاتية’ هي عبارة عن اتاوات وجبايات مفروضة على الافراد والمؤسسات والشركات في المناطق والمواقع التي تسيطر عليها، والإيرادات الناجمة عن استخراج النفط من الآبار التي تمت السيطرة عليها في شمال سورية وشرقها، ومساعدات من بعض بلدان الخليج.
الى ذلك، احتاطت جبهة ‘النصرة’ لاحتمال تعطيل مصادر التمويل الخليجية بمحاولة السيطرة على مخازن الاسلحة والدعم اللوجستي العائدة للجيش السوري.
في هذا السياق، قامت ‘النصرة’ وحلفاؤها بشن هجوم مركّز على بلدة مهين في ريف حمص الجنوبي، بقصد السيطرة على مخازن اسلحة ضخمة للجيش النظامي.
من الواضح ان دفع الحل السياسي الى الأمام لن يكون جدياً إلاّ اذا اقترن بتعطيل الحل العسكري الذي ما زال قائماً. وتعطيل الحل العسكري لن يكون ممكناً ما لم تقتنع بذلك الولايات المتحدة والحكومات التي تقوم بتمويل فصائل ‘الإسلام الجهادي’ او بتزويدها بالاسلحة والعتاد او بالاثنين معاً. ذلك ان ‘الإسلام الجهادي’، ولا سيما تنظيماته الاكثر تطرفاً في العــــراق وسورية ولبنان وسيناء المصرية واليمن وليبيا وتونس والجــــزائر، ناهيك عن افغانستان وباكستان وبعض بلدان القوقاز الروسي، بات قوة ثالثة فاعلة ازاء كلٍ من امريكا وحلفائها من جهة، وخصومها كايران وسورية وحزب الله من جهة اخرى.
يعتقد البعض ان تنظيمات ‘الإسلام الجهادي’ هي مجرد ادوات بأيدي الاستخبارات الامريكية وحليفاتها، والا سبيل الى تعطيل فعاليتها إلاّ اذا حسم عرّابوها مصيرها. صحيح ان تنظيمات ‘الإسلام الجهادي’ تتعاون، بشكل او بآخر، مع أجهزة الاستخبارات الاطلسية والعربية، وان بعضها مجرد ادوات امريكية او اطلسية بأزياء عربية وإسلامية، لكن الاصح ان التنظيمات ‘الجهادية’، ولا سيما التابعة منها لتنظيم ‘القاعدة’ العالمي، مستقلة سياسياً وتنظيمياً عن الولايات المتحدة وحلفائها، كما عن خصومها، وانها تتعامل مع أجهزة الاستخبارات الاطلسية وغيرها في اطار تماثل الاغراض والمصالح ولقاء ‘اجور’ متفق عليها سلفاً. ذلك يعني ان وقف ‘استئجار’ خدماتها من طرف الاستخبارات الاطلسية وغيرها لا يؤدي بالضرورة الى وقف انشطتها القتالية والإرهابية.
اياً ما كان التقييم الموضوعي لفصائل ‘الإسلام الجهادي’ ومدى استقلاليتها لدى الولايات المتحدة وحلفائها وخصومها، فإن ثمة ما يشير الى ان واشنطن استشعرت، على ما يبدو، خطورة الاستمرار في دعم بعض فصائل ‘الإسلام الجهادي’ ومحاذير انتقال عناصرها، في قابل الايام، الى الدول الداعمة لها كما الى دول الغرب. في هذا السياق، يمكن تفسير نفي رجب طيب اردوغان ان تكون بلاده توفّر مأوى او دعماً للجماعات المرتبطة بتنظيم ‘القاعدة’ في سورية. أعلن ذلك بعد ساعات من ضبط شاحنة تحوي 1200 رأس حربي واسلحة اخرى قرب الحدود مع سورية. وكانت تركيا اعلنت قبل ايام توقيف اشخاص بحوزتهم مواد كيميائية بقصد تهريبها الى داخل سورية. غير ان اردوغان اكّد في تصريحاته دعم بلاده لـِ’الجيش السوري الحر’ ولـِ’الإئتلاف الوطني’ السوري.
ما مدى جدّية توقف امريكا وحلفائها عن دعم تنظيمات ‘الإسلام الجهادي’، وما مدى تأثير ذلك في تعطيل الحل العسكري ودعم الحل السياسي؟
بعض خصوم امريكا في محور الممانعة والمقاومة يعتقد انها جادة في موقفها السلبي المستجد من الفصائل المتطرفة في ‘الإسلام الجهادي’، ويعزوه الى الشعور بخطرها الحالي والمستقبلي عليها وعلى حلفائها، بعضهم الآخر يشكك كثيراً في جدّية ما يُنسب الى امريكا من موقف سلبي تجاه فصائل ‘الإسلام الجهادي’، خصوصاً تلك المتحالفة معها، ويعتقد ان غاية امريكا الحقيقية هي استنزاف سورية لإخراجها عملياً من تحالفها مع ايران وقوى المقاومة العربية، وان تحقيق هذه الغاية لم يكتمل بعد.
في هـذه الأثناء، وحتى إشعار آخر، ما زال استنزاف سورية جارياً بلا كلل ولا رحمة، ولعله سيزداد حدةً مع احتدام الصراع بين ‘داعش’ و’النصرة’ على إمرة بلاد الشام .
‘ كاتب لبناني