ليس جديدا أن تشهد بعض مدن الجزائر اضطرابات، أو حتى انقطاعات في توزيع المياه الصالحة للشرب، لكن الجديد هو أن يُتهم المغرب، ولو ضمنا بالتسبب فيها. والسؤال هنا هو هل دخل الماء على خط الخلافات الجزائرية المغربية؟ وهل سيؤدي ذلك بالبلدين إلى التناحر والتصارع، وخوض غمار حرب مياه، تلي حرب الرمال التي مضى عليها أكثر من ستين عاما؟
لقد كان الهدف من وراء كل النزاعات والصراعات التي عرفها المغرب العربي منذ ستينيات القرن الماضي هو، إما الحفاظ على أراض كانت تحت سلطة وسيادة طرف، أو البحث عن استعادة أخرى خارج السيطرة. لكن هل سيكون الماء هو المدار الجديد للصراعات، التي قد تنشأ في الشمال الافريقي؟ لا شك في أن أهمية ذلك المورد الطبيعي زادت مع ارتفاع الطلب عليه، وتضاؤل مخزونات الدول المغاربية منه، خصوصا مع تواصل الجفاف.
ولعل التفسير الذي يقدمه البعض للنقص الحاد في كميات الأمطار هناك، خصوصا في السنوات الأخيرة، هو أن الأمر لا يعدو أن يكون نتيجة طبيعية وحتمية للانحباس الحراري، الذي صار هاجسا مقلقا ومحيرا للعالم بأسره. غير أن آخرين قد لا يتورعون عن الإشارة إلى عنصر إضافي، إذ فضلا عن ذلك العامل الحاسم والمؤثر بالطبع، فإن تلك الوضعية تبدو أيضا محصلة منطقية لما جنته على المغاربيين أفعال ساستهم وقراراتهم على مدى العقود الماضية. لقد فكر كل بلد من بلدانهم بمنطق قطري ونفعي بحت، ولم يخطط أبدا لأن يكون للماء دور في التخفيف من حدة الأزمات السياسية، وربما تحقيق النفع والرفاه لجميع الشعوب المغاربية بلا استثناء، من خلال إقامة مشاريع مشتركة. ولعل هناك من سيقول إن ذلك لم يكن مستغربا أو مفاجئا بالمرة، إذ أنه لم يكن من المتوقع بالنسبة إلى دول كان همها الأول والأخير هو التمترس وراء حدودها القطرية الضيقة، أن تتطلع إلى مسألة تبدو أوسع وأرحب وتهم لا حياة ومصير الأجيال المعاصرة فحسب، بل حتى المقبلة أيضا، وهي التصرف المشترك في الموارد المائية. والحقيقة التي لا مفر منها اليوم هي، أن كامل الشمال الافريقي بات معنيا وبشكل كبير بما يصفه الخبراء بالفقر المائي. لكن ما الذي سيؤول إليه الأمر على المديين المتوسط والبعيد؟ وهل إن الوضع القائم حاليا هو بمثابة القنبلة الموقوتة التي قد تنفجر بين لحظة وأخرى، وتؤدي إلى نشوب معارك وحروب دامية بين دول المنطقة للسيطرة على منابع الأودية والأنهار؟ في آخر عدد من أعدادها تساءلت دورية «جون أفريك» الفرنسية عما اذا كانت حرب المياه بين المغاربة والجزائريين قد اقتربت. ولم يكن طرح مثل ذلك السؤال بالعبثي أو البعيد عن الواقع، فالدافع وراءه كان وجود طرف يمتلك نوعا من الأفضلية أو الأسبقية على الآخر، من حيث قدرته على التحكم في تلك المنابع. وفي حالة البلدين المغاربيين المذكورين فإن المقاربة بينهما تبدو على النحو التالي، ففي حين أن الموارد المائية المغربية «تنبع من التراب الوطني» مثلما قال أستاذ علم المناخ محمد سعيد كرود للدورية الفرنسية نفسها، أي أن مصدر الأنهار والوديان في المغرب ليس من خارج المملكة، فإن العكس ليس صحيحا بالنسبة إلى جارتها الشرقية. وربما هذا ما دفع وزير المياه الجزائري إلى أن يتهم الشهر الماضي الرباط، ولو بشكل غير مباشر بأنها مسؤولة إلى حد ما عن الجفاف الذي ضرب مناطق من بلاده، حين أشار إلى أن «إحدى الدول المجاورة، من خلال سلوكها غير المسؤول أخلت بالتوازن البيئي، ما أثر بشكل خطير على الحيوانات والنباتات على طول الحدود الغربية للجزائر».
الحقيقة التي لا مفر منها اليوم هي، أن كامل الشمال الافريقي بات معنيا وبشكل كبير بما يصفه الخبراء بالفقر المائي
ومع أن الرباط لم تعلق على تلك الاتهامات الضمنية، إلا أن تلك الفرضية تضع المنطقة أمام تحد كبير، وتدق ناقوس الخطر أمام استخدام ما يبدو سلاحا جديدا قد لا يقل فتكا عن أسلحة الدمار الشامل وهو سلاح الماء. لقد تحدث الوزير الجزائري عما وصفه «بالتجفيف المقصود والممنهج لبعض السدود» الجزائرية في إشارة إلى ارتباط مخزونات تلك السدود بشكل كبير بحجم التدفقات المائية المقبلة من المغرب، وإن صح ذلك بالفعل فلعل هناك من سيقدم الأمر على أنه قد يدخل في باب المعاملة بالمثل، بعد أن قطع الجزائريون في وقت سابق إمدادات الغاز الطبيعي التي كانت تصل المغرب. وهنا ربما قد يقول إن الماء هو سلعة حيوية توازي، أو تفوق أهمية الغاز عند الدول. غير أن المغاربة قد لا يكونون متحمسين الان على الأقل لاستخدام تلك الورقة لسبب بسيط وهو، أنهم يدركون جيدا أنها سكين بنصلين. ولعل تأكيد الملك محمد السادس قبل ثلاث سنوات للجزائريين على أن «الشر والمشاكل لن تأتيكم أبدا من المغرب، كما لن يأتيكم منه أي خطر أو تهديد، لأن ما يمسكم يمسنا وما يصيبكم يضرنا»، يدل على ذلك.
لكن كيف ستتصرف الجزائر على الناحية الشرقية من حدودها؟ لقد حذر تقرير نشره موقع الكتيبة الإلكتروني التونسي في فبراير الماضي مما وصفه بـ»تزايد الاستنزاف المفرط للموارد المائية من قبل الدولة الجزائرية، جراء إقامة عديد السدود على مجاري مشتركة دون تدخل واضح للدولة التونسية للدفاع عن حقها في هذه الثروة التي تنظمها القوانين الدولية»، ناقلا عن منسق المرصد التونسي للمياه علاء المرزوقي قوله في هذا الصدد إن «وضعية الموارد المائية التونسية تعكس الوضع العام السياسي للبلاد. ومن المؤسف أن الجزائر تستغل هذا الوضع السياسي المرتبك في تونس من أجل إنقاذ أمنها المائي، حيث اعتمدت على حل الخلاص الفردي لتحسن من اقتصادها ووضعية فلاحيها دون مراعاة للأضرار التي لحقت بالجانب التونسي»، على حد تعبيره. وهذا ما يدل على أن الخلافات أو النزاعات على المياه ليست فصلا هامشيا أو ثانويا، من فصول الخلافات السياسية العديدة الموجودة حاليا بين بعض الدول والأنظمة المغاربية، بل إنها قد تكون فتيل خلاف حاد وعميق، حتى إن بقي مواربا لاعتبارات ظرفية، ومتروكا على الهامش في ظل وجود علاقات هادئة ومستقرة بين جارين مثلما هو الحال بين تونس والجزائر. ولعل هناك من سيقول وما علاقة التونسيين أصلا بحرب مياه قد تنشب بين الجزائريين والمغاربة؟ لكن هل يوجد البلدان داخل جزيرة معزولة، أم أنهما ينتميان إلى مجال جغرافي واسع، لا بد أن تتأثر كل دوله بأي نزاع يحدث فيه؟ لقد سارع الجزائريون في أبريل الماضي إلى التوقيع مع التونسيين والليبيين على اتفاقية «إنشاء آلية حول إدارة المياه الجوفية في الصحراء الشمالية» يكون مقرها الجزائر. وهذا يعني أنهم واعون بأن مشكل المياه لا يمكن أن يحل بشكل فردي. لكن هل سيأتي اليوم الذي يقتنعون فيه بأن جارتهم الغربية وبدلا من أن تكون مصدر المشكل قد تكون جزءا من الحل؟ هذا ما يتطلع اليه كل من يأمل بأن لا تندلع غدا حرب مياه بين الجارتين.
كاتب وصحافي من تونس