مع نشر هذه الكلمات ستكون الولايات المتحدة الأمريكية على موعد مع محطة جديدة في حياتها وصلتها بعد مخاض عسير، لم يكن وليد اللحظة، وإنما نتاج تجربة تراكمت على مدار سنوات أربعٍ صعاب لم تعشها أمريكا لوحدها، بل عاشها العالم بأسره، وصولاُ إلى الخمسة والسبعين يوماً الأخيرة من تمنّع الرئيس المطرود ترامب، ورفضه الإقرار بالهزيمة، وسعيه المحموم لإثبات ادعائه بتزوير الانتخابات، ورفضه لإجراءات نقل السلطة، وما تبع ذلك من أحداثٍ وأحداث.
عرش ترامب الذي قاد إلى ما قاد إليه وما عشناه جميعاً عبر أجهزة التلفزيون في «ليلة سقوط الكونغرس» لم يكن إلا «بروفة» لما قد يكون عليه الحال، إذا ما خرجت الأمور عن السيطرة، بل إن البعض يعتقد أن الأمر سيكون أسوأ مما شهدناه. والآن وفي ظل انقسام أمريكا لقسمين بفعل النتائج الانتخابية وحصول ترامب على 75 مليون صوت، وما شهدناه من مدّ وجزر طيلة فترة ترامب بأكملها، يحضرنا جميعاً السؤال الأهم: هل ستشتعل أمريكا؟
واضح أن «الماكنة» العسكرية والأمنية انشغلت في تحصين العاصمة، ومحاولة استعادة هيبة الدولة بعد سقوط أحد أركانها، كما أنها تنشغل الآن في تأمين المواقع الحكومية والسيادية، وحماية المنشآت، والإعداد لموجة متوقعة من العنف والمواجهات التي تقول التقارير الأمنية، التي نشرت عبر وسائل الإعلام الأمريكية بأنها ستحتاج بعض الوقت. كما ينصبّ الجهد الأمني على حماية موقع التنصيب، وضمان سير عملية نقل السلطة بصورة آمنة، في ظل غياب ترامب عن المشهد. هذا المشهد الهادئ شكلاً اليوم والمنفجر غضباً فعلاً، إنما يحمل ضمناً ألغاماً وتبعات مهولة. لذلك نرى حراكاً عسكرياً وأمنياً غير مسبوقين، وبدرجة حساسية يحلو للأمريكيين توصيفها بأنها تخضع «لصفرية القدرة على الاحتمال» فما أن أشيع عن حريق في معسكر للاجئين قبل يومين كما قيل، إلا وأعلن عن إغلاق العاصمة جزئياً وفرض حظر التجوال. لا أحد يريد لأي إنسان أن يعاني حتماً، ولا يرجو الكارثة لأحد، لكن المشهد على تعقيده يؤكد صحة ما تتوقعه المؤسسة الأمنية الأمريكية، بأن المواجهة بين المعسكرين ستؤدي لاشتعال حروب مختلفة. حرب الميدان والنار والرصاص، أتركها لتقييم أصحاب الشأن، لكن حرباً دفينة ستنفجر حتماً وهي تخص الملفات ذاتها التي فجّرتها الإدارة السابقة أو انفجرت في وجهها. فحرب الصراع العرقي التي كانت تجربة جورج فلويد المخنوق تحت أرجل الشرطة الأمريكية، كانت بمثابة شراراتها الأساس، التي تفاقمت مع ما تبعها من أحداث، لتصل الذروة حال اقتحام الكونغرس واتهام الأمن بالتهاون مع المقتحمين كونهم من البيض، وتقدير المراقبين أن المواجهة والعقاب كان سيكون أقسى لو أن المهاجمين من أصحاب البشرة السمراء.
إطفاء براكين ترامب ومقاومة ما خلفه من زلازل، لابد أن يفوق في ضخامته كل براكين الأرض وزلازلها
والحرب الطبقية التي عززت سطوة رأس المال على حساب الفقراء، وما اتخذ من قرارات أضرت بالفقراء، وأصحاب الدخل المحدود، وما صاحب ذلك من تقويض لما عرف بخطة أوباما الصحية ستكون أيضاً موضع اشتعال. أما حرب المهاجرين واللاجئين، الذين واجهتهم إدارة ترامب بإجراءات غير مسبوقة، وصلت حد المنع من دخول البلاد، والحرمان من تصاريح العمل وحقوق الإقامة والمواطنة، وصولاً إلى فصل الأطفال عن آبائهم لمن يعبرون الحدود من المكسيك وغيرها بصورة غير شرعية، جميعها تشكل ساحة اشتعال خطرة. يضاف إلى ذلك ملف وباء كورونا، وإخفاقات مواجهته، والمسؤولية القانونية والأخلاقية أمام الأعداد الهائلة للضحايا والمصابين، وتبعات هذا الأمر الذي تجاوز الملايين من البشر من حيث العدد، وما سيترتب على ذلك من مستحقات مالية ومعنوية هائلة حال فتح المجتمع لملف تورط الإدارة السابقة في إجراءات وقرارات ومواقف أدت لهذا الحال، وهو أمر ستضطر معه الإدارة الجديدة لإيجاد آلية لعلاجه. أما التراجع الاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية، فسيقف في قبان الدول المتطورة فإما أن تنجح الدولة في معالجة ما ترتب على نكساتها، اقتصادياً، أو تسقط في وحل التراجع والانتكاس وتقهقرها مالياً وتجارياً، وتصاعد دعوات بعض الولايات الغنية للانفصال كتكساس وكاليفورنيا تجنباً لأن تدفع الأخيرة فاتورة الانهيار الاقتصادي لأمريكا بأكملها. يضاف إلى ذلك الوضع الحرج للملفات الخارجية، خاصة من حيث حساسيتها وصعوباتها وضراوتها، وما صاحبته من سقوط مدوٍ في وحل السياسة، سواءً على مستوى إلغاء ترامب للاتفاق النووي مع إيران، أو المعالجة الخاطئة والمميتة لملف الصراع العربي الإسرائيلي، أو التعامل مع ملف التطبيع العربي مع دولة الاحتلال الصهيوني، وصفقة القرن المزعومة، إضافة إلى ملف العلاقة مع كوريا الشمالية وأوروبا وكندا والقائمة تطول. أما العلاقة مع الصين التي خسرتها أمريكا بصورة مدوية وواضحة، فتشكل حجر الزاوية في التعاملات التجارية السياسية الخارجية، فإما أن يتم انتشال أمريكا من وحل الانهيار التجاري العالمي وإما أن تركع أمام الضربات الاقتصادية القاضية للتنين الصيني، وهو ما يهدد علناً حضور أمريكا وقوتها الاقتصادية. يضاف إلى ذلك واقع المعاهدات الدولية الصعب، وعضوية أمريكا في المؤسسات العالمية المختلفة، والعودة عن انسحاب ترامب منها، كمنظمة الصحة العالمية واليونسكو وغيرها، بالإضافة إلى اتفاقيات المناخ والبيئة وغيرها.
اشتعال أمريكا في حرب أهلية أمر متوقع أتركه لغيري أن يحسم أمر حصوله من عدمه، لكن ازدياد جذوة نيران الملفات الصعبة التي تنتظر بايدن، أمر حتمي لا محالة، لذا فإن إطفاء براكين ترامب ومقاومة ما خلفه من زلازل، لابد أن يفوق في ضخامته كل براكين الأرض وزلازلها. فهل يفلح بايدن في معركة الرئاسة؟ أم يكون ترامب فعلاً آخر رئيس لأمريكا في عهد الاتحاد الفيدرالي والقوة الأوحد؟
كاتب فلسطيني
[email protected]