هذا سؤال قفز إلى ذهني وأنا أرى حكومات بعض الدول المؤيدة لإسرائيل، مثل ألمانيا وإنكلترا وفرنسا وأمريكا وإيطاليا في ما ترتكبه من مجازر بحق الشعب الفلسطيني في غزة، في الوقت الذي أرى فيه فصائل هائلة من الشعوب تملأ ميادين وشوارع العالم بالمظاهرات ضد إسرائيل ومن والاها، وترفع شعارات أوقفوا الإبادة وحرروا فلسطين. لا يتوقف الأمر على هذه الدول أيضا، بل تملأ المظاهرات المؤيدة لحماس وفلسطين العالم كله من الغرب إلى الشرق. وفي الوقت نفسه الذي صارت فيه محطات تلفزيونية عالمية غربية، تمتلئ بالأكاذيب وقلب الحقائق لما يحدث في غزة، ظهرت منصات أخرى وصفحات لآلاف من الأشخاص أو الجماعات تنشر الحقائق عن الغارات الإسرائيلية، وعمليات القتل المنظم للمدارس والمستشفيات ومراكز اللجوء في غزة والمخيمات من المباني، ومعها تعليقات قادة إسرائيل التي صارت تدور حول محورين. الأول أنهم ينفذون وعد الله لهم في التوراة، والثاني أن الشعب الفلسطيني حيوانات لا تستحق الحياة. طبعا هناك محاور أخرى لكنني أركز على هذين المحورين وهما الأكثر شيوعا بين قادة إسرائيل، بل صار يرددهما سياسيون مناصرون لهم في الدول التي تناصرهم. هذان المحوران اللذان تبرر بهما إسرائيل جرائمها، لهما تأثير مضاد على الحشود الهائلة من المعارضين لإسرائيل في العالم. والسؤال ألن يعيد هذا إلى الأذهان صورة اليهودي في الأدب العالمي، التي استمرت تقريبا حتى نهاية القرن التاسع عشر، وبدأت تتغير بعد محارق أوروبا لهم. تلك الكتب من الروايات أو المسرحيات العالمية لم يتم حرقها ولم تختف.
حقيقة أنها لم تعد تشهد وجودا عمليا في المسارح أو السينما، كما كانت من قبل، لكنها موجودة تتم دراستها وقراءتها، أعمال مثل مسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير التي فيها اليهودي المرابي قاتل يطلب جزءا من لحم المدين الذي ذهب ليقترض منه مقابل الدين. وبالمناسبة حكاية الربى والمراباة هي أكثر ما اتصف به اليهود عبر التاريخ. طبعا هناك تفسيرات كثيرة لها، وهي أنهم، باعتبارهم أقليلة ومحاصرة، برغبتهم أو بغيرها، في كانتونات ضيقة تُعرف دائما بحارة اليهود، كان الربا والعمل في استثمار المال هو طريقهم لوجود وتأثير أكبر، وبالطبع نجحوا في ذلك مع نجاحهم أيضا في الوجود الكبير في الإعلام وشركات الإنتاج السينمائي في هوليوود، أي في ما يؤثر في الفرد من كل الجوانب.
نعود إلى الصورة القديمة في الأدب العالمي التي انتشرت في الرواية أو المسرحية، كمرابٍ أناني شرير مجرم أو قائد عصابة، كما هو في رواية «أوليفر تويست» مثلا لتشارلز ديكنز، أو في مسرحية «اليهودي المالطي» لكريستوفر مارلو، ففيه اليهودي الحريص على المال أكثر من البشر ومن ثم يقتل الأبرياء ولا يظهر في لحظة نادما ويستيقظ ضميره. تجد الصورة لا تبتعد عند الشعراء أو كثير من الكتاب. وجدت أوروبا ممثلة في إنكلترا حلا هو وعد بلفور المشؤوم عام 1917، لتكون فلسطين وطنا لهم، فهي بمثابة أرض الميعاد في التوراة التي كتبوها، وحفلت بالخرافات والأساطير، لكن لا بأس فالدين هنا سيكون ظهيرا للسياسة مبررا لها.
لن أحكي ما حدث في فلسطين من تهجير أو مذابح على يد اليهود فكله ليس ببعيد. المهم أن اليهود صار لهم وطن، وإن كان أكثرهم لا يعيش فيه، بل فضلوا البقاء أو السفر إلى بلاد أخرى مثل أمريكا التي يبلغ فيها عدد اليهود حوالي أربعة ملايين، وهو رقم يساوي من هم في إسرائيل تقريبا، وبينهم من هم ضد وجود إسرائيل نفسها ويتظاهرون ضدها. تغيرت صورة اليهودي في الأدب وظهر كضحية، ويمكن أن تعود إلى كتاب غسان كنفاني «في الأدب الصهيوني»، وساعد ذلك في وجود دولة إسرائيل.
حدث عادي مرّ على الدنيا وهو خبر في داغستان بوصول طائرة من إسرائيل إلى مطار عاصمة داغستان» محج قلعة» فتجمعت حشود السكان ودخلت المطار بهدف محاكمة الركاب الإسرائيليين، وارتفعت شعارات «لا مكان لقتلة الأطفال» مما اضطر الحكومة إلى تأجيل النزول من الطائرة لثلاث ساعات، بعدها صارت الفنادق التي تستقبل الركاب تتأكد من هوية القادم، فلا مكان ليهودي من إسرائيل.
صورة اليهودي المرابي القاتل الأناني القديمة لم تبتعد عن الأدب العربي في أعمال كتاب كثيرين، كذلك لم تبتعد عن الأفلام المصرية، وبصفة خاصة البخل والربا، وإن كانت معظم الأفلام كوميدية، فقد كانت مصر ملجأ لهم تماما كفلسطين. كانت إسرائيل تقوم بمذابح كبيرة للفلسطينيين وتهجير لأهلها، لكن الصورة لليهود كمضطهدَين في العالم أنست العالم ما يفعلون. لقد دخل العالم في صمت ممارسا أكبر مغالطة في التاريخ وهي إعلانه معاداة السامية، التي هي موجهة لمن هم ضد اليهود، وتطبيقها على العرب الذين فتحوا لليهود بلادهم وفي القلب منها فلسطين. ما فعلته وتفعله إسرائيل هذه الأيام ليس مختلفا عن مجازرها القديمة في فلسطين، لكن ما تفعله الآن طال وقته، فمضي شهر حتى هذا اليوم الذي أكتب فيه هذا المقال، ناهيك عما تنقله السوشيال ميديا الحرة بعيدا عن توجهات الدول المؤيدة لهم. هنا ننتبه إلى أن المظاهرات في العالم أغلبها من أجيال جديدة ربما لم ترَ ما حدث من قبل. لن أحدثك عن المشاهير الذين رفضوا واستنكروا ما تفعله إسرائيل وما أكثرهم، لكن تخيل هذه الحشود من الشباب في العالم، ولا بد أنها مثقفة وتقرأ وتعرف، وبينها الألاف الذين ينشرون مقاطع فيديو من الإرهاب الذي تمارسه اسرائيل، ولا بد سيكون بينهم يوما قريبا كتّاب للرواية والمسرح والشعر فضلا عن الفكر، فهل لن يتأثروا بما تفعله إسرائيل الذي يطول الحديث عنه، والذي تثير مشاهده القلوب والبكاء من جثث الأطفال والنساء قبل الرجال، وصور الأطفال الخارجين من تحت الركام، والفقد الجماعي لأسر كاملة، ويكون تعليق قادة الكيان الصهيوني ومن والاهم أنهم حيوانات لا يستحقون الحياة، وأنهم يفعلون ما أمرتهم به التوراة. هذا التفكير الديني مع الصور البشعة هل سيمر ويُنسى؟ لا أظن. إن الملايين من المتظاهرين ضد هذا قد خرجوا كرد فعل إنساني، لكن لا بد ستتبع المسألة دراسة وفهم، وأسئلة من نوع كيف تكون التوراة مرجعا لكل هذه المذابح، وما معنى النظرة المتعالية على شعب من الشعوب، وقد تقدم العالم إلى منطقة أخرى من حقوق الإنسان، ولم يعد حتى ماضي أوروبا الاستعماري غير ماضٍ تعس لن يعود، لكنه يعود مع إسرائيل. ستستيقظ كل الجرائم القديمة للدول المساندة لإسرائيل وما فعلته في مستعمراتها، لكنها لن تكون مبررا عند الملايين من الشباب الذين انتفضوا في العالم لإغفال ما تفعله إسرائيل.
حدث عادي مرّ على الدنيا وهو خبر في داغستان بوصول طائرة من إسرائيل إلى مطار عاصمة داغستان» محج قلعة» فتجمعت حشود السكان ودخلت المطار بهدف محاكمة الركاب الإسرائيليين، وارتفعت شعارات «لا مكان لقتلة الأطفال» مما اضطر الحكومة إلى تأجيل النزول من الطائرة لثلاث ساعات، بعدها صارت الفنادق التي تستقبل الركاب تتأكد من هوية القادم، فلا مكان ليهودي من إسرائيل. مرّ الخبر عاديا، لكن هل لن يتكرر في صور أخرى في التعامل مع اليهود، خاصة من سيتركون إسرائيل بعد أن تهدأ الأمور، وسيكونون كثيرين لم تعد لهم طاقة للعيش وسط هذا الصراع. بالنظر إلى المحتجين في العالم من الأجيال الجديدة فلن يطول الوقت حتى تعود صورة اليهودي القديمة، وسيكون السبب هو تجني حكومة إسرائيل وجيشها وقادتها والدول التي تساندها وسكان المستعمرات – ولا أقول المستوطنات – الذين صارت صورهم وجرائمهم في كل الفضاء. سيعود اليهود إلى الشتات تدريجيا بعد أن تهدأ الحرب، فهل سيؤخر هذا الشتات الإرادي عودة صورة اليهودي القديمة للأدب في العالم. لا أظن. مئات السنين يحتاجها البشر لينسوا صور المذابح في غزة، ولينسوا شعار نتنياهو ورجاله أنهم ينفذون وعد الله في التوراة، وأن الفلسطينيين حيوانات يجب قتلها. لقد دفعت أوروبا ثمن معاداة السامية لليهود بمنحهم أرض فلسطين والسماح لهم بإبادة أهلها الحقيقيين، والآن سيعيد الصهاينة الثمن مضاعفا، وتعود صورة اليهودي القديمة إلى العالم مع هذه الأجيال الشابة التي تنتفض في كل الدنيا من أجل فلسطين.
روائي مصري